المنشورات
المقامة العقيقة
حكى سهيل بن عباد قال: بكرت يوماً بكور الزاجر، في معمعان ناجر، خوفاً من اصطكاك الهواجر. فأمعنت في السياحة، وجعلت أقطع ساحة بعد ساحة. حتى إذا تخللت بعض الغيطان، وقد سال عليها مخاط الشيطان. رأيت كتيبة من الرجال، على كثيب من الرمال، فبذلت في شاكلة الجواد المهماز، ورددت صدور الأرض على الأعجاز. حتى أدركت القوم، في منتصف اليوم. وإذا جنازة قد أودعوها التراب، وشيخ على دكة قد افتتح الخطاب. فقال: يا كرام المعاشر والعشائر، وأولي الأبصار والبصائر، أرأيتم ما أحرج هذا البيت، وأسمج هذا الميت؟ طالما جد وكد، واشتد واعتد. وركب الأهوال، واحتشد الأموال. فانظروا أين ما جمع، وهل أتى بشيء منه إلى هذا المضجع. وطالما شمخ، وبذخ. وأسرف، واستطرف. وتأنق في الطعام والشراب، واستكرم المهاد والثياب، وتضمخ بالعبير والملاب. فاعتبروا كيف صار جيفة لا تطاق، وكريهة لا تستطيع أن تلحظها الأحداق. فإن كنتم قد ضمنتم الخلود، وأنتم اللحود. فتمتعوا بشهواتكم ملياً، واتركوا ما رأيتم نسياً منسياً. وإلا فالبدار البدار، إلى طرح العالم الغرار. فإن السعيد من نظر إلى دينه دون دنياه، وأخذ الأهبة لأخراه قبل أولاه والشقي من نظر قريباً، فبات خصيباً، وعاش رحيباً، وغفل عن يوم يجعل الولدان شيباً. ثم فاضت عيناه بالدموع، وأطرق برأسه من الخشوع. وأنشد:
واهاً لمن خاف الإله واتقى ... وعاف مشترى الضلال بالهدى
وظل ينهى نفسه عن الهوى ... إن إلى الرب الكريم المنتهى
وليس للإنسان إلا ما سعى ... نعم! وإن سعيه سوف يرى
ما هذه الدنيا سوى طيف كرى ... فانتبهوا يا غافلين للسرى!
وشمروا الذيل وبادروا الوحى ... من قبل أن يدعوكم داعي الردى
واطرحوا كل نعيم وغنى ... واستهدفوا لوقع أسهم البلى
وأقرضوا الله فنعم من وفى ... ما أجهل الناس وأذهل النهى
لو أن هذا المال في هذا الورى ... قال: ألست ربكم؟ قالوا: بلى
ولما فرغ من أبياته زفر زفرة الضرام، وقال: "كل من عليها فإن، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"، ونزل وهو يمسح عبراته بفضلة اللثام. فخيل للقوم أنه قد هبط من السماء، وقالوا هذا ممن يمشي على الماء. ثم أقبلوا يهرعون إليه، وطفقوا يقبلون يديه، ويتبركون بمس برديه. وأتحفه كل منهم بما شاء، وقالوا له: الدعاء الدعاء! فلما أحرز المال هب إلى الفرس، بأسرع من رجع النفس. وقام القوم فودعوه، ثم تطرقوا فشيعوه. فلما أبعد عن الربوة، قيد غلوة. إذا امرأة كأنها من حور الجنان، تنتظره على المكان. فتأفف وقال: يا لكاع! لولا حاجة الرفاق، لأشهدت عليك بالطلاق. فقالوا: ما هذه الجارية، يا مبارك الناصية؟ قال: هي امرأة لي صحبتها في هذه الرحلة، لتخفف عني بعض الثقلة. فأنضاها الكلال حتى لا تستطيع أن تمشي فنذهب، ولا أستطيع أن أترجل لتركب. فتقدم إليها فتى ببرذونة قد امتطاها، وقال: اركبي باسم الله مجراها. فقال الشيخ: جزاك الله خير الجزاء وجزاء الخير، ثم أقسم على القوم فعادوا وكأن على رؤوسهم الطير. قال سهيل: وكنت قد عرفت حين أماط اللثام، أنه ميمون بن خزام. فقلت: إن الشيخ قد أتى الله بقلب سليم: والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. بيد أني طويت عنه كشحي، لأعلم هل أصاب قدحي. فتراجعت مع الراجعين، وتوليت عنه حتى حين. فمكثت هنيهة أترقبه، ثم انبعثت أتعقبه. حتى انتهى إلى دسكرةٍ في الطريق، بجانب العقيق. فنزل عن الحجر. واعتزل إلى حجرة، وافترش اريكته في ظل حجرة. فاعتسفت إليه من بعض الجوانب، وكمنت له كالضاغب. وإذا به قد احتجر دستجة من الراح، كزجاجة فيها مصباح. وأخذ يتعاطى الأقداح، ويغازل تلك الخود الرداح. فلما لعبت بعطفيه الشمول، مال على أحد جانبيه وأنشأ يقول:
سقى الغمام ترب ذاك القبر ... فقد سقاني من لذيذ الخمر
ما لم أذق نظيره في العمر ... أفادني في اليوم قبل العصر
ما لست أستفيده في الشهر ... وإن أكن ركبت إثم السكر
فقد أفدت القوم عند الذكر ... مواعظاً تلين صلد الصخر
فنلت من ذاك عظيم الأجر ... وصرت أرجو أن يقوم عذري
عند الإله في مقام الحشر ... بأنني كفرت قبل الوزر
قال: فلما فرغ من إنشاده المريب، طلعت عليه طلعت الذيب، وقلت: السلام على الخطيب. فأجفل إجفال الحمل، وقال: سبق السيف العذل. إذا كنت طفيلياً، فلا تكن فضولياً. قلت: فمن التي تشرب الكأس من يديها؟ أحليلة بنيت بها أم خليلة أنست إليها؟ قال: إن بينهما نقطة فلا تحاسب عليها. والآن قد غلبتني سورة المدام، وتلعثم لساني عن الكلام، فاذهب الليلة بالسلام. وإذا التقينا غداً برزت لك المكنون، ودرأت عنك الظنون. قال: فعلمت أنها من خزعبلاته، لكنني أجريته على علاته. فثنيت عنه عناني، وانثنيت لشاني.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)