المنشورات
المقامة الشامية
أخبر سهيل بن عباد قال: دخلت يوماً على صاحب لي بالشام، أعوده من داء البرسام. فجلست بإزائه، وأنا أستخبره عن دائه. وبينما هو يبث شكواه، ويتأوه لبلوه. إذا قيل: قد جاء الطبيب، فقلت: قطعت جهيزة قول كل خطيب. ونظرت فإذا رجل قد أقبل يجر ذيل طيلسانه، ويقرع أديم الأرض بصولجانه. حتى دخل فسلم، ثم جلس معرضاً ولم يتكلم. فتوسمته وإذا هو شيخنا ابن خزام، فاحتفزت للقيام، وأردت أن أستأنف السلام. فأومض إلي بجفنيه، واستوفقتي عن التسليم عليه. فقال له المريض: يا مولاي أرى أن صدري قد ضاق، وتواتر علي الفواق. فقال: ذكر الأستاذ بقراط، أن ذلك يدل على نضج الأخلاط. وقد وصف له الإمام ابن عاتكة، أن يسقى شراب الملائكة. لكنه لا يشترى إلا بمائة درهم، فإن بذلتها نجوت من البلاء الأدهم. فدفعها إليه وقال: حباً وكرامة، إن ظفرت بالسلامة. قال: وكان أهل المريض قد استضعفوا رجاء الشفاء، ورأوا طبيبهم كالكاتب على صفحات الماء، فاستحضروا بعض نطس الأطباء. ووافق تلك الساعة وفده عليه، فدخل وهو يتهادى بين برديه، ثم جلس والشيخ يصوب طرفه ويصعده إليه. فقال: إن شئت أن تتحفنا بمعرفتك، فذلك من عارفتك. قال: أنا من أطباء جزيرة العرب، كنت قد انتصبت للتدريس حتى انقطع الطلب. فاعتزلت عن مزاولة العلاج واصطناع الأدوية، وخرجت أتفقد العقاقير في الجبال والأودية، فعظم الشيخ في عين الطبيب، وأراد أن يسبر غوره ليرى أيخطئ ظنه أم يصيب. فقال: يا مولاي إني رجل من المتطببين، وقد عثرت على مسائل أنا منها بين الشك واليقين. قال: على الخبير بها سقطت، فسل عما التقطت. فإن وجدت لذلك عبرة، أعطيتك الجواب صبرة. قال: كيف يتركب السرسام، مع البرسام؟ وما هي مقادير الأخلاط بالنسبة إلى بعضها في الأجسام؟ وما هو المراد عند الأول، بقسمة الطب إلى علم وعمل؟ وما هي الكيفية المنفعلة والكيفية الفاعلة؟ وما هي الأسباب السابقة والبادية والواصلة؟ فقال: الله أكبر إن الحديث ذو شجون، وإن لك أجراً غير ممنون. لقد ذكرتني مائة من المسائل، جمعتها في بعض الرسائل. وهي مما يشكل على الألباء، وتناقش به فحول الأطباء. فإن شئت جعلنا الساعة موعداً، وأتيناك بها غداً. قال: ذاك إليك، فنهض وقال: السلام عليك. وخرج وهو قد اعتضد الصولجان، وانساب انسياب الأفعوان. قال سهيل: فابتدرت الخروج على الأثر، قبل أن يتوارى عن النظر. فأدركته عن أمد يسير، وهو ينشد كحادي البعير:
الحمد لله وللفرار ... فقد نجوت من فضوح العار!
أفلت من جرادة العيار ... ما لي وللنضال والحوار
ما أنا بالرازي ولا البخاري ... وليس لي في الطب من أسفار
أدرسها في الليل والنهار ... وسائل مماحك مهذار
يسألني عن غامض الأسرار ... جعلت مثل الخادع الغرار
موعده الساعة فوق النار ... فقل له: صبراً على انتظاري!
قال: فما استتم الإنشاد، حتى وقفت له بالمرصاد. وقلت: عهدتك بالأمس خطيباً، فمتى صرت طبياً؟ فقال: ألبس لكل حالة لبوسها، إما نعيمها وإما بوسها. دخلت يا ابن أخي هذا البلد، وأنا غريب لا سيد لي ولا لبد. فرأيت الأديب عند أمته، أهون من قعيس على عمته. فلما رأيتهم معارج لا ترتقى، وأراقم لا تقبل الرقى، جردت المبضع والمشراط، وسأستغفر الله لي ولهم إذا وقفنا على الصراط. قال: وبينما نحن كذلك إذ صاحت الصوائح، وعلا ضجيج النوائح. فقلت له: قاتلك الله ما أقتلك، وأحبط علمك وعملك. قد كنت أهون من قعيس، فصرت أشأم من طويس. لو رمى الله بك أصحاب الفيل، أغنيت عن الطير الأبابيل.
فنظر إلي شزراً، وأنشد يقول شعراً:
لا خير في الناس دعني ... أفتك بهم، يا فلان
فليس فيهم رجاء، ... وليس منهم أمان
يا ليت ألف طبيب ... مثلي يسوق الزمان!
فكلما قصر العيش ... يقصر العصيان!
فخف عنهم عذاب ال ... أخرى وقل الهوان!
ثم قال: هذه معذرتي فإن شئت القبول، وإلا فدع عنك الفضول، وإذا فارقتني فقل ما شئت أن تقول. ثم ولى يهرول، والنائحات تولول. وهو يقول: لو قدرت أن أدفع الموت لبقيت إلى الأبد، ولو شفى الطبيب كل مريض لم يمت أحد. فرجعت أقول: ههنا كل العجب، لا بين جمادى ورجب.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)