المنشورات
المقامة اليمنية
حكى سهيل بن عباد قال: لفظتني أحداث الزمن، إلى مشارف اليمن. فحللتها أنكر من شيء، وأنقل من فيء. لا أعرف بها جليساً، ولا أجد لي أنيساً. فلما مللت الإقامة فيها، هممت بالرحيل عن فيافها. فرأيت رجلاً في الرحال، يطالب شيخاً بمال. والشيخ يتبرأ من طلبه، ما لم يحكم الشرع به، فتنافذا إلى القاضي بسببه. قال: وكنت قد تبينت أن الشيخ صاحبنا ميمون، فابتهجت كأني أوتيت مال قارون، وتبعته إلى دار القضاء لأنظر ماذا يكون. فلما دخلا على القاضي حياة الشيخ بالسلام، وقال: أيد الله شرع الإسلام. فكأن القاضي نظر إلى رثاثة برديه، فلم يحفل بالرد عليه، فأخذت الشيخ الحمية، حمية الجاهلية. وقال: أراك قد ارتكبت الخلة المنهي عنها، فقد قال الكتاب: إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها. فإن كنت تعتبر الخرق دون الأخلاق، فتلك مدارج الخز في الأسواق، وإلا فانظر إلى الألباب دون الجلباب. فإن المرء بأصغر به، لا بثوبيه، قال: فخجل القاضي واعتذر إليه، وقد عظم في عينيه. وقال هل للشيخ دعوى ترفع؟ قال: لا بل لصاحبنا دعوى لا تسمع. فأشار القاضي إلى الرجل، وقال: تقدم فقل. فقال: يا مولاي لا تطعم العبد الكسراع، فيطمع في الذراع. إن هذا الشيخ استأجر مني ناقة مهرية، في الديار المصرية. وقال: إذا بلغنا اليمن لا أسلمك الزمام، حتى أسلمك الأجرة عن تمام. فرخصت له في النسيئة، وغفلت عن الخبيئة. فلما بلغنا موطىء القدم، إذا هو أضبط من عائشة بن عثم. فأمسك المطية، فضلاً عن العطية. فقال القاضي: ما تقول يا أيها الشيخ في دعواه؟ فضحك حتى استلقى على قفاه. وقال: قد جعلت تسليم الأجرة موعداً لتسليم الزمام، فأنا لا أسلمه الأجرة والسلام. فعجب القاضي لافتنانه، وأعجب بسحر بيانه، وخاف من ظبة لسانه. فقال للرجل: نجعلها بين بين، خذ العين، واترك الدين، فويل أهون من ويلين. فقال: إذا لم يكن غير هذا عند المولى، فالرضى به أولى. ولما خرج الرجل لشانه، أشار القاضي إلى بعض غلمانه. وقال له: شيع الشيخ إلى بحبوحة الربع، وخذ منه دينار المنع، فقال الشيخ: أراك أيها الإمام، قد جعلت زادك مخ النعام. ولقد بلوتك لأرى هل تحكم بالقسط بين الناس، فوجدتك تميل إلى حيث ترجو ثمالة الكأس، أو تجهل إخراج القضايا على مقتضى القياس. فلأهجونك بما لم يهج به قاض من قبل، ولأشكونك إلى من يؤدبك بالعزل، أو تشتري عرضك مني ولي عليك الفضل. فندم القاضي على قضائه الخاسر، وقال: هذا جزاء مجير أم عامر. ثم أقبل على الشيخ وقال: قد فرضت في مالي من الزكاة نصاباً، فخذه وسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً. قال: فلما قبض الشيخ الذهب، نهض وقال لي: يا رجب، خذ من القاضي دينار الأدب. فقال القاضي: إنني بحكمك راض، فاقض ما أنت قاض. فتلقفت الدينار وخرجنا للحين، والقاضي يقول: إن الله لا يضيع أجر المصلحين. ولما فصلنا عن المكان، دعوت الشيخ إلى منزلي بالخان. فقال: إن نفسي لا تطيب بمقام، حتى أفتقد الناقة والغلام. قلت: وما ذاك يا حمة العقرب؟ فضحك حتى استغرب. وقال: أما الناقة فركوبتي التي جرت على أجرتها المخاصمة، وأما الغلام فخصمي الذي رأيته في المحاكمة. فقلت: وماذا حملك، على أن تحبط عملك؟ قال. وصلت إلى هذه البلاد، وقد خلت وفضتي من الزاد، فتوصلت إلى القاضي بسبب لعلمي أنه أطغى من فرعون ذوي الأوتاد، وأبخل من كلاب بني زياد. ورصدت له حتى طلب دينار القضاء، فكان عليه أشأم من رغيف الحولاء. فقلت له: لله درك ما أطول باعك، وأهول قاعك! قال: من ليس يؤخذ بالبنان، فخذه بالسنان. ثم انساب بي إلى منزله كالحباب، وإذا غلامه الذي كان يخاصمه بالباب. فأشار إليه وأنشد:
هذا غلامي الذي خاصمته ... إني لمثل ذلك استخدمته
حتى إذا الصيد أتى قاسمته ... بما كسوته وما أطعمته
وإن تمادى الدهر بي علمته ... ما قد أذعته وما كتمته
وهو مقام ولدي أقمته ... فإن ذخرت عنه أو حرمته
عاقبني الله فقد ظلمته
قال: فعجبت من أفانينه في المكر، وأساليبه في النظم والنثر. وعدلت إذ ذاك عن الرحيل إلى المقام، حتى أراد الشخوص إلى الشام، فانطلق إلى دار الحرب وانطلقت إلى دار السلام.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)