المنشورات
المقامة الحلبية
أخبر سهيل بن عباد قال: كان لي صديق بظاهر الشهباء ينتمي إلى العرب العرباء. وكنت وإياه كالماء والراح، أو كنديمي جذيمة الوضاح. فحضرتني منه ذات يوم بطاقة، يطالبني فيها بحق الصداقة. ويطلب أن أبادر إليه ببعض الأشربة مما وصفه له بعض أهل التجربة. فساءني ما به من توعك المزاج، وأشفقت من تأخر العلاج، فبادرت برقعته الواصلة، إلى سوق الصيادلة. وأخذت له ما أراد كما يريد، وانطلقت إليه أعدو كخيل البريد. وبينما أنا أجري مليحاً، وأقعد طليحاً. لمحت شيخنا الخزامي وابنته بجانب الطريق، ولديهما فتى قد لبس البياض وتختم بالعقيق. فوثبت كالظبي المقمر إليه، حتى أقبلت عليه. فتقدمت، ثم سلمت. فأجابني بالفارسية، وأعرض عن تمام التحية. فقلت هذه إحدى مكايده. قد جعلها من مصايده. وطويت عنه كشحاً، وضربت صفحاً. فتماشيت القهقرى، وتواريت بحيث أرى ولا أرى. فرأيت الشيخ قد أشاح بوجهه عن الجارية والغلام، وجعل يدمدم بلغة الأعجام. والفتى يخالس الجارية النظر؛ ويغازلها على حذر. فقالت: إن صاحبنا أعجم طمطم، لا يفهم ولا يفهم. وقد لقيته وفاقاً. لكنني أرى عينه قد طمحت إلي، فلا يزال حوالي. وهو يعرض لي طوراً بصرة، وتارة بدرة. وأنا أنفر منه كالناقة الهوجاء، ولا أنبس له بحوجاء ولا لوجاء. فقال: ساء فأل المخنث! إنه لأحمق من شرنبث. أفلا نصرفه إلى حيث يعود الذيب ونرفع ثقل منظره المذيب؟ فقال: أشار إلي بأنه قد أعياه الصداع، ولو كانت لي سكاب لما قلت لا تعار ولا تباع. فأشار إلى برذون له أطير من عنقاء مغرب وقال: نعم القتيل بجير إن أصلح بين بكر وتغلب. فأركبته ذلك البرذون الأدهم وقالت: اذهب إلى حيث ألقيت رحلها أم قشعم. فلما خلا الفتى بالجارية قال لها: أبشري، خلا لك الجو فبيضي وأصفري. لكنني قبل ذلك أريد أن أطلع طلع حالك. فقالت إنني فتاة كريمة الأصل، قليلة الأهل لا أب لي ولا بعل. وقد سئمت من طول حبسي، وتولي أمر نفسي، فإن كان لك أرب في النساء، فاتبعني لآخذ ما لي من الأشياء، وأتبعك إلى حيث تشاء. قال: أفعل وكرامة، ونهض معها راكباً جناحي النعامة. قال سهيل فأذهلني ذلك الطويل العريض، عن الدواء والمريض. ورجعت أدراجي في أثر الصاحبين حتى دخلا البيت البيت كالفرقدين. فأخذ الفتى يرزم ما لها من الحطام، وخرجت لتحضر ما تيسر من الطعام. وإذا بأبيها قد هجم هجوم الأسد، على النقد. وقال: ويلك يا عدو الله ما كفاك أن تكون فاسقاً حتى صرت سارقاً فلأقيمن عليك الحد والقطع، ولأجعلنك عبرة إلى يوم الجمع! فطارت نفس الفتى شعاعاً، واستطار فؤاده ارتياعاً! وجعل يتهطر لديه بالسؤال، ويدمث له المقال والشيخ يشمخ بأنفه، ويهز من عطفه، ويرمح برجله ويشير بكفه فكاد الفتى يذوب من الحياء، وظن أن صاعقة هبطت عليه من السماء، فانقاد إليه انقياد الأسير، وقال: قد فديت نفسي بهذه الدنانير قال: قد قبلتها منة الكرام، على أن لا تتعرض لبنات الأعجام. فذهل الفتى عن معرفته بالتلميح، وما صدق أن أطلق ساقيه للريح، فمضى ينهب الطريق، والشيخ من خلفه يهدر كالفنيق. حتى إذا ثاب إلى الوقار، وقف بعرصة الدار. وأنشد:
يا هل ترى أين سهيل يطلع ... يا ليته كان يرى ويسمع
يرى الفتى مهرولاً يندفع ... تكاد تذريه الرياح الأربع
أعطاني البرذون وهو يطمع ... في وصل ليلى، لا هناه المضجع!
سبقته عليه فهو أسرع ... لكنه بالماء ليس يقنع
فقمت أبتغي له ما يشبع ... لكن بدون المال ماذا أصنع؟
وإن يكن نال الفتى ما يجزع ... منه فقد نال به ما يردع
والنصح من وصل البنات أنفع
قال سهيل: فبرزت من الوكنة التي كمنت فيها، وأنشدت بديها
هذا سهيل طلعا ... وقد رأى وسمعا
أنسيته المريض وال ... دواء والداء معاً
أنت صديق لم يدع ... لمن سواه موضعاً
فقال: أهلاً بأبي عبادة، متى عهدك بالشهادة؟ قلت: منذ عهدك بالفارسية التي نلت منها السعادة. أفلا تعلمني هذا اللسان، لأستغني معك عن ترجمان؟ قال: أراك تستبيح قطع الأرزاق، فليس لك عندي من خلاق، يعدو كالبرق أو كالبراق.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)