المنشورات
المقامة الكوفية
حكى سهيل بن عباد قال: كلفت منذ الصبا بعلم الأدب، وشغفت باستقراء لغة العرب. فكنت أنضي إليها المطايا، وأتفقد الخبايا في الزوايا. حتى كنت يوماً بالكوفة وأنا أتعهد معاهدها المألوفة وأشهد مشاهدها الموصوفة فمررت بعصبة من العلماء كأنهم من بني ماء السماء. وهم قد جلسوا إلى شيخ أغبر الشيبة، أبلج الهيبة. وهو يشير تارة بالبنان، وطوراً بالصولجان. فجعلت أروح تلقاءهم وأجي، وأقول ليس هذا بعشك فادرجي. حتى حذتني القطربية، على الأشعبية. فألقيت دلوي في الدلاء طمعاً في اجتلاء الجلاء. وتطفلت على تلك الحصرة الجلى وإن كنت ممن عبس وتولى. فلما تخللت المقام حييت القوم بالسلام، وتفرست في الشيخ فإذا هو ميمون بن خزام. فقلت: لله الأمر كله، قد عرف النخل أهله! وجعل القوم يخوضون في حديث العربية، ومسائلها الإعرابية. حتى حلت الحبى، وبلغ السيل الربى. والشيخ ينظر من طرف خفي إلى الناس، والقلم في يده يجري على قرطاس. إلى أن نفد ما عند الجماعة من أسرار الصناعة. وهم يرون أن يلتقط اللآلي، وينظم في سمط الأمالي. فقالوا: أيها الشيخ نراك تجمع، مما تسمع قال: إن لكل ساقطة لاقطة.
ولكن أريد أن تنظروا ما كتبت، لتروا هل أخطأت أم أصبت. فتناولوا الرقعة بديها، وإذا هو يقول فيها: ما الفرق بين التمييز والحال، وبين عطف البيان والإبدال وأين يستوفى حق الإسناد، ولا يخرج يركنيه عن حكم الإفراد؟ وأي الضمير، يتردد بين التعريف والتنكير وأين يراعى ما يقدر، ولا يبالى بما يذكر؟ وأي اسم يجتمع فيه خمس من موانع الصرف، وأي لفظ يشارك الاسم والفعل والحرف؟ وفي أي الأماكن، يجتمع ثلاثة من السواكن؟ وأي فعل يعطى ما للأسماء ويمنع مما للأفعال؟ وأي اسم يجري مع قبيلته على هذا المنوال؟ قال: فلما وقفوا على تلك المسائل، رأوها من المشاكل. فقالوا له: لله أنت، فقد أحسنت ولكن لو أبنت فعبس، حتى ما نبس، وصارت مقلتاه كالقبس، فأشفقوا من غضبه، وسألوه عن محتضبه. فقال: قد تكلفت لكم الخطاب، ثم أتكلف الجواب، والعلي فوق ذلك أتكلف لكم الثواب. قالوا: لا وأيدك الله بل إن جئت بالبينة السافرة، وجلوت الشرود النافرة، فالنقد عند الحافرة. فلما آنس الندى، ووجد على النار هدى. فتح خزانة أسراره، وسمع بمكنونات أفكاره. حتى امتلأت حقائب الملا، وقالوا: هكذا هكذا وإلا فلا بيد أنهم مالوا إلى استملاء ما أبان، حرصاً على ثباته في الأذهان. فقال: اكتب يا سهيل، واندفق في إملائه كالسيل. حتى إذا أترع الكؤوس، وقاد الشموس بالشموس قال: لا مخبأ لعطر بعد عروس. ثم أشار إلي وأنشد:
العلم خير من صلاة النافلة ... به إلى الله العباد واصله
فاحرص عليه والتقط مسائله ... ودع كنوز المال فهي باطله
ولا تبع آجلة بعاجلة ... ولا تضع واصلة بحاصلة
واعرض عن الليلة نحو القابلة ... فذاك مشرب الثقات الكاملة
وليس خير في النفوس العاقلة ... إن غفلت عن القلوب الغافلة
والناس إن كانت طغاماً جاهلة ... فما يكون الفرق يا ابن الفاعلة
بين الرجال وبغال القافلة
قال: فلما فرغ من سحره السحري، انهال عليه الشمسى والقمري، فأشار نحوي وقال: اسق أخاك النمري. قالوا: علم الله أن سيكون ولكن السابقون السابقون. حتى إذا قضوا فريضته المكتوبة، عادوا إلى سنتي المندوبة. فخرجنا نجر الذلاذل، ونحمد البذل والباذل.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)