المنشورات
المقامة العراقية
حدثنا سهيل بن عباد قال: دخلت مجلس أمير العراق، وقد غص حتى التفت الساق بالساق. فسلمت تسليم الأريب، ووقفت موقف الغريب. حتى إذا ركد النسيم، وصفت الكأس للنديم. دخل شيخ أغبر الناصية، عليه شعار البادية، وهو قد أخذ بيد فتى ترف البنان كأنه من ولدان الجنان. وقال: أيد الله الأمير، وأبد له السرير. إن هذا الغلام سرق نصف أبيات مدحت بها بعض الأمراء، فتحول المديح فيها إلى الهجاء. ولما بلغته أمر بحبسي إلى أن يسر الله لي بالإطلاق وقد كدت أقتل نفسي. فعليه حق الجناية وقطع السارق وعليك تأديب كل طاغ وفاسق. فقال الأمير: يا هذا قد تقرر في علم الأصول، أن الدعوى لا تصح في المجهول فهات أبياتك التي أغار عليها، فأنشد يقول:
إذا أتيت نوفل بن دارم ... أمير مخزوم وسيف هاشم
وجدته أظلم كل ظالم ... على الدنانير أو الدراهم
وأبخل الأعراب والأعاجم ... بعرضه وسره المكاتم
لا يستحي من لوم كل لائم ... إذا قضى بالحق في الجرائم
ولا يراعي جانب الكارم ... في جانب الحق وعدل الحاكم
يقرع من يأتيه سن النادم ... إذ لم يكن من قدم بقادم
إن الشقي وافد البراجم ... وضيف نوفل كضيف حاتم
قال: فكيف سرق وعلى أي نسق قال: قد أخذ أصحاب الشمال ونبذ أصحاب اليمين فقال كمن يقرأ مشجر الصين:
إذا أتيت نوفل بن دارم ... وجدته أظلم كل ظالم
وأنجل الأعراب والأعاجم ... لا يستحي من لوم كل لائم
ولا يراعي جانب المكارم ... يقرع من يأتيه سن النادم
إن الشقي وافد البراجم فقال الأمير: أولى لك يا غلام كيف سللت الملح من الطعام؟ قال: كلا إنني ما أنشدت إلا لنفسي، ولا جنيت إلا من غرسي. فإن سلم بتوارد الشاعرين، فقد سقطت الدعوى عن الفريقين. وإلا فلا يتعين السارق حتى يتعين السابق. قال: فأنف الشيخ من ذلك المراء. وقال: ويحك هل أنت من الشعراء؟ قال: عند الامتحان، يكرم المرء أو يهان. قال: إن كنت من أهل الأدب، فما هي أبحر الشعر عند العرب؟ فأنشد:
أطل مد وابسط فر وكمل كهازج ... وأرجز برمل وأسرع اسرح مخففاً
وكن ضارعاً واقصب من اجتث واقترب ... برمز لنا عن أبحر الشعر قد كفى قال: قد وفيت الفروض، فهل تعرف أجزاء العروض؟ فأنشد:
جميع أجزاء العروض حاصلة ... من سبب ووتد وفاصله
يصاغ منها كلمات أحرف ... تجمعهن معلنات يوسف
قال: قد جئت بالجواب الشافي، فهل تعرف ألقاب القوافي؟ فأنشد:
إن رمت ألقاب القوافي كلها ... فهناك خمس لا يليها سادس
هي عندهم: مترادف متواتر ... متدارك متراكب متكاوس
قال: وهل تعرف ما للقوافي من الأجزاء وما لأجزائها من الأسماء؟ فأنشد:
إذا رمت أجزاء القوافي فسل بها ... خبيراً يجيد القول حين يقول
رويٌّ ووصلٌ والخروج وراءه ... وردفٌ وتأسيسٌ يليه دخيل
قال: وهل تعرف حركات القافية، ما هيه؟ فأنشد:
حركات قافية نظير حروفها ... ستٌّ: بها المجرى عددنا أولاً
ثم النفاذ وحذوها والرس وال ... إشباع والتوجيه فاحفظها ولا
قال: حياك عالم الغيوب فهل تعرف ما للقوافي من العيوب؟ فأنشد:
عاب القوافي إكفاء وإقواء ... إجازة ثم إصراف وإيطاء
كذاك تضمينها التحريد مجتنب ... ومثل ذاك سناد وهو أنحاء
قال: أراك تحسن الجواب في الحال، فما أبرئك من انتحال. فإذا كنت شاعراً فقل أبياتاً تمدح الأمير فيها، قال: بل أهجوك: وأنشد بديها:
قل لهذا الشيخ الخزامي: صبرا ... قد توسدت من هجائي جمراً
ذلك الخمر بيننا صار خلاً ... وبعيدٌ أن يرجع الخل خمراً
يا خزام البعير ليس خزام ال ... روض إن الخزام يعبق نشراً
أنت ميمون أمة الترك لا ميمو ... ن عرب فاليمن منك تبراً
كنت ترجو من الأمير هبات ... وأنا قد أخذتها منك جبراً
لا ترم بعدها خضاباً لشيب ... فالمخازي تسود الشيب دهراً
إن رأيت الغلام يسحب ذيلاً ... من غناه، وأنت تسحب فقراً
لا تقل أنت سارق لي مالاً ... مثلما قلت سارق لي شعراً
فأقسم الأمير بالسقف المرفوع، أن الغلام لشاعر مطبوع. وقال: أشهد أن هذا الشيخ قد تجنى عليك، وأساء بما نسبه إليك. فخذ هذه الدنانير، جبراً لقلبك الكسير، وإن شئت أن تقيم بداري فأنت أكرم أنصاري. قال: أنا على ما تروم، إن انتصفت لي من هذا الظلوم، بأن لا يفوه بعدها بمنظوم، فلما رأى الشيخ صبح ليلته ومساءها، ظن أن وراء الأكمة ما وراءها. فانتصب كثالثة الأثافي، وقال: أريد أن أودع القوافي. وأنشد:
قد فسد الدهر لطول الأمد ... فلا يسود فيه غير الأمرد
إن الفتى قد جد لي في اللدد ... إذ ليس لي من سند أو عضد
شكوته إلى أمير البلد ... وقد رجوت أن يكون منجدي
فكان خصماً مثله لم أجد ... كأنما قطعت رأسي بيدي
لئن منعت عن قريض المنشد ... فالنثر أشفى لغليل الكبد
وإن تجاوزت العراق في غد ... فكن لركبان السرى بمرصد
إن حملت شعري لأهل المربد
قال: فكأن الأمير أفاق، وأشفق من التنديد به في الآفاق. فقطع لسان الشيخ بنصاب، وقال: هذا أيسر ما به نصاب. ثم قال له: دع التهم بينك وبين الفتى، فليذهب أمامك من حيث أتى. فانصرف الشيخ والفتى يتضاحكان، كأن لم يكن بينهما شيء مما كان. قال سهيل: وكنت قد تبينت أن الشيخ صاحبنا ابن الخزام، فهرعت على أثره لأنظر ذلك الغلام. وإذا به قد ناوله الدنانير، وقال: اشكر نعمة الأمير،فعجبت من استحالة تلك الحالة. وقلت: سرعان ذا إهالة. فابتدرني الشيخ بالسلام وهنأني بالسلامة وقال: أهلاً بأبي عبادة الذي لا تفوته مقامة! قلت: بل أهلاً بالمقعد المقيم، فما هذا الملك الكريم؟ فاهتز اهتزاز المهند، وتبسم لي وأنشد:
هذا غلامي بل أنا غلامه ... يا طالما أفادني استخدامه!
ينفعني في منزلي قيامه ... وفي الدجى يؤنسني كلامه
وفي السرى يسعفني اهتمامه ... حتى إذا أعوزني طعامه
سعى بسد خلتي خصامه
ثم قال: أنت راويتي وشاهدي، وجليسي في مشاهدي. فلك أن تشاركني في العطاء ولكن عليك أن تحمل عني شطر الهجاء. قلت ليس من هجاك إلا كمن هجاء الورد، فعليه كل هجائه ولا شريك له من بعد. قال: قد أحسنت الجواب وإن لم يصب موضعه، فخذ هذه النحلة وادع لي بالفلاح والسعة. فودعته مطنباً بشكره متعوذاً من مكره.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)