المنشورات
المقامة الأزهرية
حكى سهيل بن عباد قال: شخصت إلى القاهرة من بلاد الشام، في ركب فيه ميمون بن خزام. فكان يحملنا بحديثه في المراحل، وينسينا لغب السير في المنازل، حتى تبطنا السرى في ليلة حالكة الأديم، وقد قدرنا القمر منازل حتى عاد كالعرجون القديم. فشمذنا إزار السفر، وأوغلنا في تلك القفر. وما زلنا نخبط في ذلك الديجور الأربد، حتى تبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود. فمالت أعناق الناس، من النعاس. وأشفق الشيخ من طوارق البادية، فأراد تنبيه الأعين الساهية. فانتدب سجيته السيطرة، ورفع عقيرته الضبطرة. وأنشد يقول:
أيها الراكب الميم مصراً ... ألق سمعاً فللحديث فنون
دون مصر عين وعين وعين ... قام فيها نون ونون ونون
قال: فطارت السنة من الجفون، بين تلك العين والنون وتحدث القوم بما يكون وما لا يكون. هذا وقد أخذت المطايا في الذميل، وهي تقطع ميلاً بعد ميل، حتى وردت ماء النيل، فتهلل وجه الشيخ ميمون، وقال: هذه عين يشرب بها عباد الله ويسبح فيها النون. فقال القوم: قد فتح الشيخ لنا الباب، فليتذكر أولو الألباب. قال: إذا ألقينا العصا فسنفتح أبواباً أخرى. وسنجعلها للناس تبصرة وذكرى. قال: وما زلنا نستقبل المقبلة ونستدبر الدابرة، حتى دخلنا مدينة القاهرة. فلما أصبحنا دعاني الشيخ إلى ما أراد، وخرجنا نستن كخيل الطراد. حتى أتينا الجامع الأزهر، فأوحى إلي ما أوحى وقال: اصدع بما تؤمر. فمكثت ريثما دخل المقام، وفرغ من السلام. ثم دخلت فحييت القوم، فقام مسلماً علي كأن لا عهد بيننا مذ اليوم. ولما استقر بي القرار أشار إلي، وقال: مهيم يا بني؟ قلت: قد هجمت بي على هذا المجلس، رقعة كصحيفة المتلمس. فإن كشف لي هذا النادي حجابها المستور، وإلا فقد يئست منها كما يئس الكفار من أصحاب القبور. قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فكم ركب هنا مثلها طبقاً عن طبق. فقرأتها أقول:
سمحت في الشام بألف كامل ... مقتبساً مسألة من سائل
يقول: أي اسم بغير طائل ... يركب في التركيب متن الباطل
ليس بمعمول ولا بعامل ... وربما أفاد غير العاقل
فوق إفادة اللبيب الفاضل ... وقد جعلت مثل ذالك النائل
لمن يجيء بالجواب الفاصل
قال: فأطرق كل من حضر، ولم يقفوا على خبر ولا خبر. وجعل الطلبة هنالك، يخبطون في ليلها الحالك. والشيخ يعجب منها ويعجب، ويعظم أمرها ويطنب. فقال الأستاذ: إني قد جعلت على نفسي ما جعل هذا الشاعر، فإن الفوائد تشترى بالذخائر. فترنحت أعطاف الشيخ ابتهاجاً بالظفر، وقال: إن الناس يستنزلون البدر بالبدر، ثم أنشد يقول على الأثر:
قل يا ابن عباد لهذا السائل ... ذاك اسم صوت شاع في القبائل
وهو من الأغفال والعواطل ... لا يبتنى منه كلام قائل
وإنما تركيبه في الحاصل ... مزج بما قدم في الأوائل
فهو مع التركيب غير قابل ... لنحو مفعول به أو فاعل
ويستفيد منه قلب صاهل ... ما ليس قلب ناطق بشاغل
فلا تكن عن حفظه بغافل
قال: فعظم الشيخ في أعين الجماعة، لما رأوا عنده من البراعة. وقالوا: لقد حق لك الثواب، إن كنت مبتكر الجواب. فاستشاط من الغضب، حتى كاد يخرج عن الأدب. وقال: يا هؤلاء قد رميتموني بسهم إن أصاب جرح، وإن أخطأ فضح. فلأركبن معكم ما شئتم من المسائل، ليحق الله الحق ويبطل الباطل. فقال أحدهم: إنني مشتغل بعلم العروض فهل لذلك عندك من عروض؟ قال. اللهم نعم ما الفرق بين المعاقبة، والمكاتفة والمراقبة؟ وما الفرق بين ما تم من الأبيات وما وفى، وبين المصرع منها والمقفى؟ وأي بحر يستبيح أجزاء صاحبه ولا حرج عليه، فإن اختلس منه صاحبه جزءاً سيق برمته إليه؟ فأجاب الرجل بعض الإجابة وهو يمزج الخطأ بالإصابة. ولما رأى الأستاذ عكس القضية، ثارت به الحمية. فقال للشيخ: إن كنت من علماء اللغة فكم هي مخارج الحروف، وما هي صفاتها التي يتميز بها الموصوف؟ وماذا يمنع الإدغام والإعلال، بخلاف القياس في الأفعال؟ ولماذا يكتب نحو اصطفى بالياء، وقد كتب مجردة بالألف الملساء؟ فقال الشيخ: إن أخطأت في الجواب فليس لي عندكم شيء، وإن أصبت زتموني أرش جنايتكم علي. قال: قد أحسنت في الشرط والجزاء فأنا على ما تشاء. فأفاض الشيخ في شرحه حتى شرح الصدور، وقال: هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور؟ ثم اعتمد على عصاه، وقال: أستودعكم الله! فنهض إلى وداعه الأستاذ الكبير، وألقى في ردنه صرة من الدنانير. فخرج يجر الذيل، وقال: هلم يا سهيل. فلما صرنا بمعزل قال: قد حملت رقعة المسألة، واستفدت حل المعضلة! أفتبغي أن يبذل كل لصاحبه ما عليه، أم نطرح الحساب من طرفيه؟ قلت: كلاهما خطر، فلك النظر. قال: أنت ضيفي ما دمنا في هذه البقعة،فلا حاجة لك بدينار ولا قطعة. قال سهيل: فمكثت حيناً من الدهر وإياه، أتيمن بهلال محياه، وأتعلل بزلال حمياه. إلى أن حلت الشمس برج الأسد، ففارقني فراق الروح للجسد.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)