المنشورات

المقامة التغلبية

قال سهيل بن عباد: شخصت في نفر من أهل العالية، إلى أطراف تلك البادية. فسرنا لا نألو جهداً، ولا نعلو مهداً. حتى تبطنا مفازة قد ضربت أساهيجها الريح، كأنها أهاجيج شق أو سطيح. فأرسلنا إبلنا العراك، وأخذنا في الرسيم الدراك. 
وبينما نحن كذلك إذا فرسان قد أشرعوا العوامل، ونادوا: يا لتغلب ابنة وائل! فما كان إلا كرجع النفس، أو لمع القبس. حتى أحاطوا بنا إحاطة الأسورة بالمعاصم، وقالوا: لا مانع لكم اليوم من أمر الله ولا عاصم. فسرنا بينهم كالنعاج بين الذئاب، حتى انتهينا إلى حلة كثيرة الخيام والقباب، مكتظة بالخيل والركاب. فطرحونا إلى سرادق كقبة نجران، فيه شيخ كعبد المدان، على قصعة كجفنة عبد الله بن جدعان. وحواليه حلقة من ذوي البوسى، كأنهم من بقايا قوم موسى. فبتنا نجص في الرباط عند القوم، وأنا لم تأخذني سنة ولا نوم. حتى أوشك صبغ الليل أن يحول، وإذا بجانبنا قائل يقول:
يا ليل قد طلت فهل مات السحر ... أم استحالت شمسه إلى القمر؟
طلت على شيخ قليل المصطبر ... قد بات في القيد، كما شاء القدر!
يا ليت قومي يعلمون بالخبر ... وليت ليلى نظرت هذا النظر
يا أيها الظالم كن على حذر ... كل صغير وكبير مستطر
من شاء فليؤمن ومن شاء كفر
قال: فلما توجست هذا الكلام، تنسمت منه نسيم الخزام. فقلت:
قد سطعت ريح الخزام ليلاً ... فأدركت من فورها سهيلا
عسى تفيد بعد ذاك سيلا
فقال: الله أكبر، قد هان علي الموت الأحمر. قلت: نفسي فداء نفسك، فكيف أمر حبسك؟ قال: أخذت من أرض الجزيرة، على غير جريرة، والله أعلم بالسريرة. وإذا رجل قد تخلل إليه الأسرى، كأنه من آيات ربه الكبرى، وقال: هيهات لا تغني نفس عن نفس شيئاً ولا تزر وازة وزر أخرى. ثم أخذ بيده وقاده كالبعير، حتى وقفه بحضرة الأمير. فتلقاه الأمير بالوجه العبوس، وقال: أف لك يا أشأم من البسوس! أتهجو العرب الذي منهم أخذ الشعر والخطاب؟ وعلى كلامهم بني التصريف والإعراب. ومنهم تعلمت الناس الفصاحة، واجترأت الكرام على السماحة. وهم ضراب السيوف، وشراب الحتوف، وقراة الضيوف، وحباة الألوف، وحماة السجوف. وآثارهم في الحذاقة والكرم، وحفظ الجوار والذمم، أشهر من نار على علم. فكيف استطعت أن تقول للصبح يا ليل، وللشمس يا سهيل؟ قال سهيل: وكنت بمرأى من ذلك ومسمع، فقلت للحارس: إن الأمير يدعوني فلا تمنع. فأطلقني وهو يرعاني حتى دخلت في الجماعة، وإذا الأمير يقول: هات أبيات الشيخ يا أخا قضاعة. فقام فتى بين المحشد، ونظر إلى الشيخ وأنشد:
من رام أن يلقى تباريح الكرم ... من نفسه فليأت أجلاف العرب
ير الجمال والجلال والخشب ... والشعر والأوبار كيفما انقلب
أسرق أهل الأرض عن أم وأب ... وأسمج الناس وأخزى من نهب
لا تعرف الأقدار فيهم والرتب ... ولا يبالون بأحرار النسب
لكن يغرون على حفظ النشب
قال: فصفق الشيخ عجباً وأقسم بتربة نزار أنهم ممن يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون الجنة بالنار. قال: إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، فهات ما صح عندك من الأثر. فأنشد يقول:
من رام أن يلقي تباريح الكرب ... من نفسه فليأت أحلاف العرب
ير الجمال والجلال والحسب ... والشعر والأوتار كيفما انقلب
أشرف أهل الأرض عن أم وأب ... وأسمح الناس وأجرى من يهب
لا تعرف الأقذار فيهم والريب ... ولا يبالون بإحراز النشب
لكن يغارون على حفظ النسب
قال: فسرى غضب الأمير وأمسك عن التعنيف، وجعل يعجب من ذلك التصحيف والتحريف: فقال: يا مولاي حاشا أن أهجو قومي الذين منهم حسبت، إليهم نسبت. وبهم يشد أزري، ويستقيم أمري. قال: فما أنت وعرب القفار، وما عندك لهم من الآثار؟ قال: عندي ما أحببت، فلا تسأل عن شيء إلا أجبت. قال: هل تعرف مشاهير العرب الذين ترسل بهم الأمثال؟ قال: اللهم نعم، وأنشد في الحال:
من أشهر الأمثال في القبائل ... عزة ذي الحمى كليب وائل
وطلب الثأر إلى المهلهل ... ينسب كالوفاء للسموأل
ورأي قيس مثل جود حاتم ... شاع وفتك الحرث بن ظالم
وحلم معن وهو ابن زائده ... وقس ذو الفصاحة ابن ساعده
وشاعت الحكمة عن لقمان ... وهكذا الخطبة عن سحبان
واشتهرت فراسة الأفراس ... عن عامر والحذق عن إياس
والحضر يعزى لسليك السلكه ... وحيلة القصير نعم الملكه
وهكذا رواية ابن أصمع ... تذكر والجمال للمقنع
واشتهر الحزن عن الخنساء ... مثل اشتهار بصر الزرقاء
قال: حياك من كور النهار على الليل، فهل تعرف مشاهير الخيل؟ فأنشد:
أشهر خيل العرب: المشهر ... ثم النعامة التي لا تنكر
وداحس منهن والغبراء ... كذلك الخطار والحنفاء
وأعوج ولاحق سكاب ... كذلك العبيد والعقاب
كذا العصا وأمها العصيه ... وكم لهم أماً وكم بنيه
قال: قد أحسنت في الإعراب، فهل تعرف أبيات الأعراب؟ فأنشد:
خباء صوف ويجاد الوبر ... وقشع جلد سترة من مدر
وخيمة الغزل وفسطاط الشعر ... وقبة اللبن حظيرة الشجر
وهكذا الطراف من أديم ... تنزلها العرب من القديم
قال: إن كنت من أهل هذا المقام، فهل تعرف ما لهم من ألوان الطعام؟ فأنشد:
بعض طعام العرب الرغيده ... رهيدة لهيدة نهيده
وضيعة ربيكة لبيكه ... حريقة سهيكة وديكه
وزيمة سخينة فيحاء ... حريرة خزيرة حساء
مضيرة عبيثة ثريد ... وحسبنا هذا فلا نزيد
قال: وهل تعرف ما لهذه الأطعمة، من الآنية المفعمة؟ فأنشأ يقول:
آنية الطعام عند العرب ... أعظمها دسيعة في الرتب
فجفنة فقصعة تعد ... فصفحة مثكلة من بعد
ففيخة لواحد مقدره ... وفوقه ما فوقها للعشرة
قال: وهل تعرف هذه المسألة الباقية، عن أزلام الميسر في البادية؟ فأنشد:
فذ وتوأم قيب نافس ... والحس والرابع قيل الخامس
كذلك المسبل والمعلى ... مما على النصيب قد تولى
ثم السفيح والمنيح الرغد ... ليس لها إلى النصيب رشد
قال: فعجب الأمير من جريه هذا المجرى، وقال: قد كذبت من قال صاحب البيت أدرى. فلا جرم أنك من صميم العرب العرباء، وأبلغ من تحت الجرباء. ولقد جنينا عليك بما أسرناك، فاعذرنا كما عذرناك، ثم أمر بالطعام، وقال: كيف أنت والمدام؟ قال: إذا أصابت الظباء الماء فلا عباب، وإذا لم تصبه فلا أباب. على أني لا أزدرد الطعام السلجلج، ولا أسيغ اللبن السملج. ما لم تكن يد غلامي قبل يدي، فإنه بمثابة ولدي. قال سهيل: وكنت قد أضمرت الفرار، إذا تعذر القرار. فلما آنست صفو الكأس، برزت من موقفي بين الناس. فدعاني الأمير إلى بساطة، وأقبل علي بانبساطه. وأقمنا عنده ثلاثاً من الليالي، أنقى من اللآليء. حتى إذا أزمعنا السفر، ودعنا النفر. قال للشيخ: نحملك كما حملناك على الأدهم، فدونك هذا الجواد المطهم. قلت: مثل الأمير من حمل على الأدهم والأشهب، فإني أذهب كما يذهب. قال: قد رجبت لكما العطية،فضلاً عن المطية. فخرجنا بالخيل والمال والزاد، ونحن نذم المبدأ ونحمد المعاد.












مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید