المقامة الرجبية
حكى سهيل بن عباد قال: نزبت يقوم من العرب، في أثناء رجب. وكانوا قد ارتبطوا القنابل، واعتزلوا الصوارم والذوابل، واجتمعوا حتى اختلط الحابل بالنابل. فرأيت جيشاً كأولاد فارزٍ وعقفان. قد تألف من أسود بيشة وظباء عسفان. فلبثت عندهم بضعة أيام، في بعض أطراف الخيام. وكنت كلي يومٍ أشهد المحافل، وأتخلل الجحافل. وأسمع الشاعر، والناثر. وأطرب للشادي، والحادي. حتى إذا كنت يوماً ببعض الأندية، وقد سالت الشعاب والأودية. أقبل شيخ ضئيل، تليه امرأة أكبر من عجوز بني إسرائيل. فلما وقف بنا قال: حيا الله الموالي، وأعز بهم المعالي والعوالي. أنني طالما أيمنت وأشأمت، وأنجدت وأتهمت وأحجزت وأعرقت، وغربت وشرقت، وشهدت الولائم والوضائم، وشاهدت العزائم والعظائم. ورضت الرجال، وخضضت الآجال. ولقيت السراء والضراء، ومارست الحسناء والخثناء. وأترعت العساس والجفان، وملأت الثبن والأردان. وأجزت الخطباء والشعراء، وأحسنت إلى العفاة والفقراء. وها أنا الآن قد صرت نحساً مستمراً، لا أملك نفعاً ولا ضراً، ولا أذكر مما لقيت حلواً ولا مراً. حتى كأني الآن قد ولدت على هذا البساط، تدرجني هذه الحيزبون بالقماط. فاعتبروا بما رأيتم وسمعتم وخذوا الأهلة لأنفسكم ما استطعتم. فإن الزمان، ليس فيه أمان. والدنيا الغرور، لا يتم فيها سرور. والحياة ظل زائل والنعيم لون حائل. والسعيد من نظر لنفسه، قبل حلول رمسه.. وكفر عن ذنبه، قبل لقاء ربه. فلما فرغ الشيخ من كلامه اعتمد على عصاه، وبرزت العجوز كالسقلاة. وقالت: يا كرام العرب إن الله قد أمر بالمعروف عباده، كما أمر بفروض العبادة. فعليكم بالمروءة والكرم، ورعاية الذمم والحرم. وحافظوا على الوفاء ولو أفضى إلى الخسف، واحد سوا لوفدكم ولو بمطفئة الرضف. فإن بئس الردف لا بعد نعم، والكثير خير من القليل والقليل خير من العدم. قال: فرضخوا لهما بما حضر، وقالوا: خير الناس من عذر فتناول الشيخ ميسورهم وقال: إني قد قبلت بركم بالجنان، لا بالبنان، وحق علي مدحكم بالقلب لا باللسان. ثم دنا فتدلى، وأنشد وهو قد ولى:
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م