المنشورات
المقامة السروجية
أخبر سهيل بن عباد قال: أردت الخروج إلى سروج. لعلي أجد لأبي زيد أثراً أتيمن به أو أعثر على أحد من عقبه. فحسرت عن ساقي ويدي، وقلت: سروج يا ناق فسيري وخدي. وما زلت أستغرق اليوم رملاً، وأتخذ الليل جملاً. حتى كنت في ليلة أغير وأنجد، وأسترشد ولا مرشد، وإذا راكب ينشد:
أيتها الناقة إن طال السفر ... لا تجزعي منه فق طال الحضر
أقمت شهر صفر حتى صفر ... وقد أتى شهر ربيع واشتهر
فبادري لا تقفي إلى السحر ... وصابري فإنني ممن صبر
سيان عندي كل ورد وصدر ... وكل نومٍ عند جفني وسهر
أطوى وليس للطوى بي من أثر ... وأخبط الليل على غير حذر
يؤنسني سهيل إن غاب القمر
قال: فلما سمعت هذه الأبيات الحماسية، استشيت منها الفحة الخزامية. فقلت:
سهيل أرض أم سهيل الفلك ... يا أيها اللابس ثوب الحلك
إنك عندي ملك في ملك
فنزل الرجل وقال: ما لنا وسرى الليل، إذا طلع سهيل، رفع كيل ووضع كيل. فوثبت إليه كأبي فراس، وإذا كلنا في فراسته إياس. وقضينا غابر ليلتنا في تلك البطاح، إلى أن تبلج وجه الصباح، فنهض وقال: أين الوجهة يا صاح؟ قلت: قد ملكت دهراً، فأدلني شهراً. قال: أنا إمعة لك في هذه المرة، ولو نزلت بي على أبي مرة! فسرت بين يديه كالدليل، وسار في إثري كالضليل. وأخذنا نخترق الأدغال والشواجن، ونرد العذب والآجن، حتى دخلنا سروج في صبحة يومٍ داجن. فترجلنا عن أنضائنا الطليحة، ونزلنا في غرفة فسيحة. ولبثنا هناك بضعاً من الليالي، نتفقد البرج المشيد والطلل البالي، ونلتمس آثار من كان في العصر الخالي. حتى كان يوم المهرجان، فضبثت مخالب الشيخ بالصولجان، وقال: هذا يومٌ يجتمع فيه الإنس والجان. وخرج بي في صدر ذلك اليوم، حتى انتهينا إلى منتدى القوم. فوجدنا هناك فجاجاً، وماء ثجاجاً، وناساً يدخلون أفواجاً. فتوسم الشيخ أوجه الناس، وجلس عن جانب أوجه الجلاس. فلما سكنت الضوضاء، أعرض بوجهه إلى الفضاء. وقال: يا أبا عبادة إني قد أزمعت السفر، ولا أدري هل يجمع بيننا القدر. فخذ عني ما ألقيه إليك، والله خليفتي عليك. قلت: أطرف بما عندك، لا ذقت فقدك، ولا حييت بعدك! فقال: يا بني إذا ركبت متن الصحراء، فاطلب خد العذراء. وإذا نمت فاعتنق الصبي ولا تصل على النبي. واقنع بالسمراء، إذا عزت البيضاء. واشرب من كأس الفاجر، لا من كأس التاجر. وتصدق على الأمير، بجنى غرس الفقير. وإذا كلفت حمل الجنازة، فاطلب المفازة. وإذا اعتمدت السلب في الليل، فعليك بنهب الخيل. وإذا دخلت الحلقة فاحذف السلام، واقتصر على ما كذب من الكلام. وحرم الصبر على الأسير، والجبر على الكسير. واقطع السواعد ولا تتبع القواعد. واختر من النساء العليلة المتنصفة، أحذر المتجملة المتعففة. وأعرض عن الشافع، إلى الدافع، وانحر الشاري كالبائع. واضرب الساعي، بعصا الراعي. وفضل القوافل، على النوافل. والغريب، على النسيب. والإجارة، على الإمارة. وقدم زيارة الميت، على حج البيت. أحذر لنفسك من الصوم وادخل السوق عند النوم. واتبع ملاح الجواري. ولا تتبع الكاتب والقاري، واطرد اللابس وأكرم العاري. وافترس الليل والنهار، حتى يتيسر لك الفرا. واحرص على الأعراض دون الجواهر، واعدل على المسلمات إلى الكوافر.
وكن من العواطل، ولا تحاول قطع خيط الباطل. وأنكر الشهادة، حيث لا ترى الإفادة. واضرب كبد الإمام، واستعد الله ما بقيت والسلام. قال: وكان القوم قد أرعوه سماعاً فأنكروا عليه إجماعاً. ولكنهم اعتصموا بالحزم، فصبروا كما صبر أولو العزم. حتى إذا فرغ من توصيته، أخذوا بناصيته. وقالوا: أولى لك يا شولة عدوان، وهيلة غطفان، قد أمرت بالسوء ونهيت عن الإحسان! فأرغى الشيخ وأزيد، وقال: ما أشبهكم بولد الخليل بن أحمد. لو كنتم تعلمون ما وراء الفدام، من صفوة المدام، لنكص عليكم الملام. قالوا: فارفع الغشاء، ولك عندنا ما تشاء. قال: علم الله أنكم لو دخلتم البيوت من أبوابها، لكنتم أهلها وأولى بها. أما الآن وقد لقيت منكم الأمرين، وجاوز الحزام الطبيين، فلأصلينكم بنارين، ولا أبيعكم العبارة إلا بدينارين. فأذعن القوم لحكمه، إذ رأوا طليعة علمه، وقالوا: قد كثبك الصيد فارمه. حتى إذا فتق ما كان قد رتق. صاحت الجماعة: الله أكبر! قد نشر السروجي قبل يوم المحشر. قال: إنا قد أحصينا كل ذلك عدداً، ولو شئنا لجئنا بمثله مدداً. فنفحوه بالدنانير، وألقوا إليه المعاذير. قال سهيل: فلما تلقف المال أشار إلي، وقال: إن كنتم قد نسيتم الراشن فعلي.
فحصبوني بدريهمات، وقالوا: لا تأس على ما فات. فخرجنا نجر الذيول، وراح الشيخ يقول:
يا رب يوم قد قرعت الظنبوب ... مندفقاً فيه اندفاق الشؤبوب
أشرب بالزق وأسقي بالكوب، ... والناس بين غالب ومغلوب
أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب
فقلت:
أنت الخزامي الذي يشفي الضنى ... طاف بك المدح، فمن رام الثنا
لقب أو سمى وإن شاء كنى، ... أرسلك الله حديقةً لنا
فيها نزاهةٌ وظل وجنى!
قال: أكرمت يا سهيل، فشمر الذيل، وبادر الليل. قلت: إني لك أطوع من ثواب، وأتبع من البادية لمواقع السحاب. وخرجت في صحبته تلك الليلة إلى السواد، وكنت أود لو أصحبه إلى برك الغماد.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)