المنشورات

المقامة التميمية

حكى سهيل بن عباد قال: رحلت رحلةً إلى البادية في مفازة صادلة. فبذلت وجهي للهجير، ونضوي للعجارير. حتى إذا نضب الماء، وقد تهلل وجه السماء، أخذتني رعدة الظماء. فوصلت السير بالسرى لعلي أظفر ولو بالصرى، أو أبلغ بعض القرى. وبينما كنت أخب وأخد وأنا أجد ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجد. إذا راكبٌ على أثري يحدو، وهو يشدو: ذكرت ليلى! فاستهل مدمعي=حتى سقى رحلي، وبل مضجعي
ما لي وحمل شكوة الماء معي؟
فوقع كلامه مني موقع البرء من أيوب، أو بشرى يوسف من يعقوب. فزففت إليه زفيف الرال حتى أدركته على ناقته المرقال، وهو قد التثم بربطة واشتاذ بعقال. فسلمت عليه تسليم الصديق الأخص، وقلت: أغثني بشربة ماءً ولا تقل جاوزت شبيثاً والأحص. فقال: إن أخا الهيجاء من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك. واعلم أني لا أريد أن أسومك الأثقال، فاقنع منك للجرعة بمثقال. قلت: كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع، فاحتكم بحيث لا تكلفني ما لم أستطع. فلما انعطف إلى الشكوة انحل اللثام، وإذا هو صاحبنا الميمون بن الخزام. فوجدت من الدهش ما أذهلني عن العطش. واستلمت يده البيضاء استلامن الحجر الأسود وضممته إلي ضم العين للمرود. وبت تلك الليلة تحت رايته متمتعاً بروائه ورؤيته وروايته. إلى أن لاح ذنب الشرحان، ونعب غراب الصحصحان. فادلجنا في تلك السباريت، وهو ينزو نزوان المصاليت ويقدم إقدام الخراريت. وما زلنا كذلك حتى أقبلنا على ديار بني تميم، في غسق الليل البهيم. فنزلنا في أطيب خرعى، وتركنا مطايانا ترعى. ثم أفضنا بين الحي واللي، في حديث يذهل غيلان عن مي. حتى لجت السنة وتلجلجت الألسنة. فهجعنا هزيعاً من الليل ثم قمنا نشمر الذيل، وإذا ناقة الشيخ قد ندت فدعا بالحرب والويل. فقلت لعلها قد نزعت إلى بعض أعطان القوم، ولعلنا نصيبها قبل انقضاء اليوم. وسرنا نتعاقب مرة ونترادف أخرى. حتى أتينا الحلة وإذا هي بين الإبل شاخصة الذفرى. فلما رآها الشيخ صاح: الله أكبر ووثب إليها وثبة الذئب الأغبر. فدفعه بعض الرعاة وقال: لا تعرض نفسك للهلكة ولو كنت السليك بن سلكة. قال: علم الله أنها ناقتي الشاردة، وغنيمتك الباردة. فقال: كذبت يا شظاظ البادية، بل هي من تلادً صعصعة بن ناجية. فتمادى بينهما اللجاج، حتى كاد يفضي إلى الشجاج. ورأى الشيخ أنه ينفخ في رماد، وأن دون بغيته خرط القتاد. فقال: يا يا أبذل من حاتم، وآبل من حنيف الحناتم. إن لي حاجة بالجفار ولا أتيمن بغير هذه المعشار، فأنا أستأجرها كل يوم بدينار. وهذا غلامي رهن في يديك حتى أردها عليك. قال: أما هذا فعير محظور، على أن تواعدني إلى أجل منظور. فضرب له الأجل، وضرب بها على عجل. قال: وكان قد ألاح إلي فاعتزلت، حتى إذا توارى أقبلت، وأردت الخروج من حيث دخلت فجعجع الرجل بي كصاحب السجن. وقال: هيهات قد غلف الرهن إلى أن يؤب مولاك من الصفن. فقلت: أن صح رهن المرء ما ليس له، فقد رهنتك كل ما في هذه المنزلة. وأصر الرجل على الغي، حتى رافعته إلى أمير الحي. فلما أتيناه سئلت عن المسألة، فقلت: قد رهنني صاحب تلك اليعملة، كما باع نعيمان سويبط بن حرملة. فهلم بالشيخ ليثبت امتلاكي وإلا فلا سبيل إلى إمساكي. قال الرجل هيهات إنه قد سار أسرع من ظليم الدو، فصار أمنع من عقاب الجو. فقال الأمير: من هذا الشيخ ومن أين؟ فإني أراه أحيل الثقلين. قلت: أبيت اللعن يا مولاي! إني لا أعرف له منبت أسلة، ولا مضرب عسلة. لكنني لقيته سهماً حابياً عند إشرافنا على العهد، فحن إليه وأنشد:
هذا حمى قوم تميم فاختلس ... فيه الخطى من هيبة كالمحترس
فقد حماه كل ليث مفترس ... ليس بهياب الوغى ولا نكس
ينسبه العرق الكريم النبجس ... إلى كريم، ذكره لا يندرس
محيي الوئيدات الذي لم يبتش ... بماله المبذول دون الملتمس!
علمت ما مجد تميم ملتبس ... نعم، ولا رفد تميم يحتبس
يا نافتي هاتيك نار المقتبس ... فإن بلغت الحي فالبشرى لكس
قال: فاهتز الأمير عجباً وعجباً حتى كاد يصفق طرباً. وقال: شهيد الله كأنه أبو فراس، قد قام وعمراً في بردةٍ أخماس. ثم قال للرجل: يا هذا إن اللقطة قد راحت كما جاءت، فهبها لا أحسنت ولا أساءت. والآن فعادو إبلك وأحسن عملك، واقنع بما قسم الله لك. ثم قال: علم الله العظيم، إني لقد وجدت في هذا الشيخ رائحة تميم. فخذ له هذه الناقة الأخرى، واذهب فقد يسرتك لليسرى، لئلا يضيع قول شاعرنا: إننا نفك الأسرى. قال سهيلٌ: فتسنمت تلك الذعلبة القواداء، وضربت بها في عرض البيداء. وكانت ليلة بدرها قد أنار حتى ألبسها جلباب النهار. فبينما أنا في بعض الطريق، إذا الشيخ قد تدثر ببرجد صفيق وهو يغط كالفنيق. فنزلت عن الناقة، وكتبت في بطاقة:
قل لأبي ليلى: أنا فتاكا ... رهنتني في ناقة هناكا
وقد عفا الأمير بعد ذاكا، ... أطلقني بناقة وراكا
أهداكها، فنعم ما أهداكا ... لكنني أخذتها فتكاكا
فهي فدائي ... وأنا فداكا
ثم ألقيت البطاقة بين يديه وأوفضت وأنا أتلفت إليه. فنجوت من بنانه، ولم أنج من لسانه.












مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید