المنشورات
المقامة الفكية
حدث سهيل بن عباد قال: ندت لي ناقة بالبادية في ليلة هادية فخرجت أنشدها تحت الغاسق الواقب، كأنني شهاب ثاقب. وكأنها توارت بالحجاب فوق السحاب، أو تحت التراب. فخفت أن الحق بالقارظ العنزي، أو المنخل اليشكري. ولبثت أحدث نفسي بالإحجام، وهي تحدثني بالإقدام. حتى نصب ضحضاح الرجاء واستبهمت شعاب الأرجاء. فانقلبت على أحد جانبي، وأزمعت الأوبة إلى الحي. فما شعرت إلا وأنا بين قوم ثبين، ينفرون إلى الداعي مهطعين. فقفوتهم إلى المشهد المشهود لأستطلع طلع الأمد المأمود. وإذا شيخ أطول من شهر الصوم،قد قام في صدر القوم. وهو يقسم تارة بالخنس، وطوراً بالجواري الكنس. ويلهج مرةً بمواقع النجوم وأخرى بفواقع الرجوم. وفي خلال ذلك يتفقد الغضون والأسارير، ويرجم بغيوب التقادير. فصمد إله رجلٌ أدرم كأنه القضاء المبرم. وقال: الله أكبر، إن البغاث قد استنسر. إن كنت من علماء الفلك، فأفدنا ما سيارة النجوم والفضل لك. فلم يكن إلا كحل عقال، حتى أنشد فقال:
تلك الدراري: زحل فالمشتري ... وبعده مريخها في الأثر
شمس فزهرة عطارد قمر ... وكلها سائرة على قدر
قال: ذلك على أجوبة العلماء، فما هي أبراج السماء؟ فنظر إليه نظرة الصل الأصم، وقال اسمع وخلاك ذم:
من البروج في السماء الحمل ... تنزل فيه الشمس إذ تعتدل
والثور والجوزاء نعم المنزلة ... وسرطان أسد وسنبله
كذلك الميزان ثم العقرب ... قوسٌ وجديٌ دلو حوتٍ يشرب
قال: أراك من أرباب النظر فهل تعرف منازل القمر؟ فأنغض رأسه واستطال، وأنشد في الحال:
الشرطان أول المنازل ... وبعده البطين في القوابل
ثم الثريا الدبران الهقعة ... كذلك الذراع بعد الهنعة
نثرة طرفٌ جبهةٌ غراء ... وزبرة وصرفة عواء
ثم السماك الغفر والزبانى ... كذاك إكليلٌ وقلبٌ بانا
والشولة النعائم البلدة مع ... تلك وسعد ذابح سعد بلع
سعد السعود ثم سعد الأخبيه ... وفرغها المقدم المستتليه
وبعد ذاك فرغها المؤخر ... كذاك بطن الحوت ختماً يذكر
قال: حياك الذي سواه، فهل تعرف لياليه المسماة؟ فنظر نظرةً في السماء، ثم تلا: إن هي إلا أسماءٌ وأنشد:
أما لياليه فتلك الغرر ... ونفلٌ وتسعٌ وعشر
وبعدهن البيض ثم الدرع ... وظلم حنادسٌ تستتبع
وبعدها الدآدئ المحاق ... كل ثلاثٍ في اسمها وفاق
والغرة الأولى وصدر البيض ... عفراء فالبلماء في التبعيض
كذا المحاق صدرقه الدعجاء ... وبعدها الدهماء فالدلماء
قال: قد عرفت سعود القمر فهل تعرف السعود الأخر؟ فأنشد:
هاتيك سعد ملك سعد مطر ... سعد الهمام والبهام في الأثر
وسعد بارعٍ وسعد ناشره ... وذاك عدة السعود العاشرة
قال: قد عرفت طوالع الأضواء فهل تعرف غوارب الأنواء؟ فأنشد:
أول نوء السنة البدري ... وبعده الوسمي فالولي
ثم الغمير ثم بسري خوى ... وبارح القيظ وإحراق الهوا
قال سهيلٌ: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم وتياراً مستغرق أنديتهم. قالوا: شهد الله إنك لقطب الأرض والسماء، فانظر لنا واتق الله إنما يخشى الله من عباده العلماء. فقام يستقري الصفوف، ويتوسم الجباه والكفوف. ويستطلع الطوالع والمواليد ويفرق بين الشقي والسعيد. حتى خيل للقوم أن عنده علم الغيب فهو يرى، وأنه يعلم ما في السماء وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. فاحرنجموا عليه بالعطايا كما تحرنجم على الماء المطايا. فلما قبض نهض، ثم نكص فربض. وقال: قد تطيرت من تحس هذا الكابح، فأخرجوه على هذه الناقة الشوهاء فإنها ضريبةٌ له في المقابح. وهو بين ذلك ينظر مرةً إلي كالعائف ومرةً إلى الأرض كالقائف. فأطلقوا إلي الناقة وقالوا: اغرب عنا إلى النار، وجعل الشيخ يرمي الحصباء في أثري كما ترمى الجمار. فلما صرت بمعزل، عن المنزل. إذا الشيخ في أثري كالغول وهي يقول:
إني خلقت الأحيا ... حتى يشاء القضاء
ولي فؤاد لبيبٍ ... يجول حيث يشاء
إن ضاقت الأرض دوني ... فما تضيق السماء
ثم قال: خذ من جذعٍ ما أعطاك، ولا تقل: كيف ذاك؟ وانطلق ينهب الأرض بجواده حتى غمضت عين سواده. فانثنيت متيمناً بتلك المناحس ومتعجباً مما عنده من ترهات البسابس.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)