المنشورات
المقامة الإنطاكية
قال سهيل بن عبادٍ: شخصت إلى إنطاكية الروم، في عصابة كزهر النجوم. فكنا نقطع الأوقات بالنوادر، كما نقطع الطرقات بالبوادر. وما زلنا نطأ الكناس والعرينة، حتى دخلنا المدينة. فأتيت مجلس القاضي إذ ذاك، لمراشةٍ لي هناك. وإذا سيخنا الميمون، تتقدمه ليلى كالناقة الأمون. فد هشت عند إقباله، واحتفزت لاستقباله. فأعرض عني مقطباً، واقتحم الحضرة مغضباً. حتى إذا وقف بالمحراب، انقضت الفتاة كالعقاب. وقالت: يا مولاي إن هذا بعلي شيخٌ علندى، أظلم من الجلندى وهو فقير وقير، لا يملك شروى نقير. إذا غسل ثيابه لبس البيت، وإذا رأى الجنازة حسد الميت. ولقد أسرني في بيت له كالغار، لا أرى فيه غير الروافد والجدار. وهو ذلك مر المذاق، إلى ما لا يطاق. فيبيت ساغباً، ويصبح غاضباً، ولا يزال عاتباً. يذكرني زمن الفطحل وينجز الوعد بالمطل. وأنا فتاةٌ غريضة الصبا لا أعيش بالهباء، ولا ألبس غزل عين ذكاء. ولقد خطبني كرام الرجال، وبذلوا في مهري غدقاً من المال، إذ رأوا علي لمحة من الجمال. فأبى القدر المتاح، إلا أن أحوم على ورد هذا الملتاح. فمره أن يقوم بأودي أو يطلقني ويطلقني إلى بلدي، وإلا قتلت نفسي بيدي. فثار الشيخ كالمجنون وهو واجف السودل والعثنون. وقال: يا لكاع تذكرين العنوق، وتنكرين النوق. أنسيت أيام السندس والديباج، والفالوذ والسكباج؟ واللحوم والألبان والغوالي والأدهان. والمراجل والموائد، والحنائد والثرائد. أما الآن وقد نصب الغدير وأفقر السدير. وبدل الخورنق، بنسج الخدرنق. فماذا ترين في شيخ قد فلد الدهر كبده، وابتز سبده ولبده؟ وابتلاه بالحور، بعد الكور. ورماه بالغيض، بعد الفيض. حتى صارت ناره شراراً، وعاد طعامه بلغة وشرابه نشحاً ونومه غراراً. فإن كنت من رواد الغيث، فاذهبي إلى حيث. وإلا فاثبتي على الحرج، إلى أن يمن الله بالفرج. قالت: معاذ الله لا أفترش ردهة الجندل، ولا أصبر على النار كالسمندل فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، كما نطقت به آية القرآن. قال: فلما وقف القاضي على كنه أمرهما حار بين لومهما وعذرهما. وكانت الفتاة قد هجلته بافتنان كلامها، وتثني قوامها. فتاقت نفسه إلى استخلاصها، بعد خلاصها. وقال للشيخ: قد علمت أن سوء الجوار، أمر من عذاب النار. فأرى أن تستبدل بها من توافق هواك وترثي لبلواك، وفي ذلك صلاح لدينك ودنياك. قال: هيهات من ينزل بقاع صلقعٍ بلقع، أو يتيمن بالغراب الأبقع؟ فدعا القاضي بالهميان، وأبرز له نصاباً من العقيان. وقال: أطلق هذه الأسيرة من حبسك، واستعن بهذه الدنانير على أمر نفسك. فأشهد عليه بالطلاق، وقال: حبذا هذا الفراق ولو فعل بي ما فعل الباهلي بعفاق. فأقبلت الفتاة على القاضي بالدعاء، وأجملت له الثناء. فتناولها بيمينه وأولجها إلى عرينه. وانصرف الشيخ بين زفير وشهيق، وهو يرفس برجله الطريق، كأنه الصيلم الخنفقيق. فلما أبعد نحو غلوة، إلى خلوة. قال: موعدنا الخان يا سهيل، والليل أخفى للويل. قال: فلما جن الظلام أتيته في الخان، وإذا ليلى بجانبه وقد لبست ملابس الغلمان. فقال: هذه بضاعتنا ردت إلينا، وقد حق صفع المانويه علينا. فهل ذلك في السفر، قبل السحر؟ قلت: إني لك أتبع من الصفة للموصوف، وألزم من العاطف للمعطوف. وأخذت ليلى تحدثنا باختلاس نفسها بعد ثقة القاضي بأنسها. فقلت: الله أكبر، إنها من بنات أوبر فتاه الشيخ دلالاً وأنشد ارتجالاً:
عرج على القاضي وقل ولا حرج ... جمعت مالاً بالرياء والعوج
من كل من دب وكل من درج ... والمال لا يخرج حينما خرج
إلا من الباب الذي منه ولج
قال سهيلٌ: ثم هممنا بالزيال، وخرجنا نزف كالرئال فما
أصبحنا إلا ونحن على أميال. وما زلت أسير من ورائه مستسقياً بروائه، وأستظل بلوائه، معتصماً بولائه. إلى أن بلغنا أرفة العراق، فكانت طرفة الفراق.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)