المنشورات
المقامة الطائية
حكى سهيل بن عبادٍ قال: حللت بلاد اليمن في سالف الزمن، وأنا غضيض الصباء غريض الفنن. فجعلت أتردد في بواديها، بين شعبها وواديها ومازلت أطوف الحي بعد الحي، حتى دفعت إلى أحياء بني طى. فرأيت بها ما شاء الله من خيام مبثوثة، ونيران مشبوبة، وجفان مصفوفة وخيل مشدودة ورماح مركوزة. وجمال كالربى، وسخالٍ كالدبى، وجوار كالظباء وغلمان كالظُّبى. فكان الناظر حيثما سمت، يرى عجباً مما صأى وصمت. قال: وكان يومئذ موسم الحجيج، وقد اشتبك الضجيج واحتبك العجيج فبينما القوم في هياط ومياط، على أضيق من سم الخياط. إذا قلصت الزماجر، ونشصت المحاجر. وارفض القوم يفضون كأنهم إلى نصب يوفضون. فسرت كما ساروا
إلى أن صرت حيث صاروا. وإذا شيخٌ في شملة، قد قام على دعص رملة. وقال: الحمد لله ذو رفع الخضراء وبسط الغبراء. والسلام على أنبيائه الأقطاب، الذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب. أما بعد يا معاشر جلهمة، فإنكم أرباب الخيل المطهمة، والبرود المسهمة. ولكم الكتيبة السمراء، والراية الصفراء. ومنكم حبيب وحاتم وثعل، الذي يرسل بهم المثل. وإني شيخ قد طعنت في سني حتى وهن العظم مني. وقد قطعت الفدافد والمهامه، وطويت الجداجد واللهاله. وعرفت الشعوب والقبائل والعمائر والفصائل. وأدركت الأحكام والحقائق، وكشفت الأسرار والدقائق. وقيدت الأوابد، وجمعت الشوارد. وأحصيت لغات العرب، واستطلعت ما أغرب منها وما غرب. فكنت من أصحاب الدولة وأرباب الصولة. وكان يثنى إلي العنان، ويشار نحوي بالبنان. وأما الآن وقد فقد من يعرف مساوئ الشعر من محاسنه، ويفرق بين من يرمي الكلام على عواهنه، ومن يستنبث الركاز من معادنه. فقد ولت المرتبة وحلت المتربة. حتى اضطررت أن أعفر خدي ليجد جدي. وأخلق ديباجتي. قال: فصمد له فتى أجمل من بدر التمام، وأطول من ليل التمام. وقال: شهد رب الكعبة الحرام، لقد تبازى الرهام. وإني لأعجم عودك واستمطر رعودك. فإن كنت أغلط من دالق، قذفتك من حالق. وإلا فأنا زعيم لك عند القوم، أن يكون عليك أيمن يوم. فافتر الشيخ افترار المجون، وقال: قد تحرش الحوار الزفون، بالبازل الأمون. فهات ما ترمي من الحظى وخذ ما ترمى به من اللظى. قال: هل تعرف ما تأتى، من قيود جماعات شتى؟ فأطرق كالشجاع الشجعم، ثم اندفق كالوادي المفعم وأنشد:
زجلة ناسٍ حاصب الرجاله ... وهكذا كوكبة الخياله
زهط رجال لمة النساء ... رعيل خيل وقطيع الشاء
وربرب المها صوار البقر ... حيلة معزٍ عانةٌ من حمر
وصرمة من إبل وعرجله ... من السباع قد حكتها النقلة
خيط النعام ومن الجراد ... رجل وسربٌ من ظباء الوادي
وهكذا عصابة الطير ورد ... وخشرم النحل تتمة العدد
قال: إن كنت سابغ الذيل، فما مراتب عدو الخيل؟ فقال: إيه وأنشد بملء فيهِ:
أقل عدو الخيل يدعى خببا ... عليه تقريبٌ فإحضارٌ ربا
ثم ابتراكٌ فوقه الإهذاب قد ... رتب والإهماج غاية الأمد
قال: إن كنت من ذوي الكمال، فما مراتب سير الجمال؟ فاهتز وطرب، وأنشد بلسان ذرب:
أوائل السير الدبيب للإبل ... ثم الذميل فالرسيم قد نقل
فالوخد فالعسيج فالوسيج ... ثم الوجيف بعده يهيج
وبعده الإجمار فالإرقال ... والاندفاق جهد ما تنال
قال: قد أجدت الوشي، فهل لك في قيود مطلق المشي؟ فخازر جفنيه وأتلع جيده إليه. وأنشد:
قد درج الصبي والشيخ دلف ... وخطر الفتى وذو القيد رسف
ومشت المرأة والمرء سعى ... وقد حبا الرضيع يبغي المرضعا
ودرم الذي علاه الثقل ... وفرس جرى وسار الجمل
وهدج الظليم والغراب ... يحجل حيث حية تنساب
ونقز العصفور حيث العقرب ... دبت، وكلها قيود تكتب
قال: وهل تعرف ما يذكر، من ترتيب جماعات العسكر؟ فروأ ريثما تفكر. ثم أنشد:
أقل جمع العسكر الجريدة ... وبعدها السرية المزيدة
وفوقها كتيبةٌ تميس ... فالجيش فالفيلق فالخميس
قال: ما أرك في البادية بالدخيل، ولا في الإفادة بالبخيل، فهل تعرف مراتب النخيل؟ فاستطال اختيالاً، وأنشد ارتجالاً:
فسيلةٌ قيل لصغرى النخل ... وفوقها قاعدةٌ تستعلي
جبارة عيدانةٌ والباسقة ... فوقهما ثم السحوق الشاهقة
قال: أحياك الله السمر والقمر، فهل لك في ترتيب ما للنخل من الثمر؟
قال: اسمع فترشد، ثم أنشد:
أول حمل النخل طلعٌ يبدو ... ثم سيابٌ فخلالٌ بعد
بغوٌ فبسرٌ فمخطمٌ يلي ... ثم موكتٌ بتذنوب تلي
فجمسةٌ فثعدةٌ فرطب ... وبعده التمر أخيراً يحسب
قال سهيل: فلما فرغ الفتى من حواره، وشفى غليل أواره. أقبل على الشيخ وقال: شهد الله أنك علامة الدنيا، وغاية الأدب القصيا. فما برنا في جانب أمرك الجلل إلا رشحة من بلل، أو هبوةٌ من طلل. ثم ألقى ديناراً في ردن البجاد، وقال: كل صعلوك جواد وجعل يطوف على القوم كجابي الوضيعة، وهو يقول: الصنيعة، من كرم الطبيعة. فلم يبق في الجماعة إلا من أعجبته صفاته، ونديت له صفاته. فلما أتم مسعاه، تلقى الشيخ وحياه، وقال: قد جئناك ببضاعة مزجاة. فقبل مفرقه وقال: حياك الله لقد انتشلت الغريق ودرأت الخريق، عن الحريق، فهل لك أن تدلني على الطريق؟
قال: أنا أدل من دعيميص الرمل في أخفى من مدارج النمل، فسر والله يجمع لك الشمل. قال: أتبع الفرس لجامها والناقة زمامها، والله يكلأ شيخ البادية وغلامها. قال الراوي: وكنت قد تبينت أنهما الخزامي وفتاه، فلما انصرفا قفوقهما إلى الفرة. وإذا الشيخ ينشد بلسان ذلق، وصوت كصوت المصطلق:
أنا الغملج الذي لا ينكر ... أكون تارة خطيباً ينذر
وتارةً زير نساءٍ يسكر ... وتارةً مصلياً يستغفر
وتارة راصد نجمٍ يسحر ... وتارةً شيخ علومٍ يبهر
فقل لمن جاء ورائي يخطر ... إن أهالي عصرنا تقتصر
على المعاصي حيثما تقتدر ... والعبد يصفو تارةً ويكدر
فعد إلى القوم بلومٍ يزجر ... أو لا فدعني إن مثلي يعذر
قال: فانثنيت عنه كما أشار خوفاً من لسانه المهذار، وعدت إلى استتمام السياحة في تلك الديار.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)