المنشورات

المقامة الأنبارية

روى سهيل بن عباد قال: سافرت ذات الزمين في ركب من بني القين، يملأون الأذن والعين. وما زلنا نقطع المراحل حتى أنضينا الرواحل. فنزلنا في خلاء بلقع، وقلنا: الرشف أنقع. وكان بين القوم رجل واسع الرواية، بعيد الغاية. فبات يجلو علينا خرائد السمر تحت ظل القمر. حتى خاص في حديث علماء الأدب وحكماء العرب. وأخذ يذكر المشاهير والأفراد، كعبيد بن الأبرص ولقمان بن عاد فأخذتني الحمية هنالك، وقلت: ماء ولا كصداء وفتى ولا كمالك أين أنت عن الشيخ الخزامي، الذي ينفر العصامي والعظامي؟ قال: رب صلف تحت الراعدة، وأين باقل بن ربيعة من قس بن ساعدة. فما فتئت أذكر له ملحاً من نوادره ولمحاً من بوادره. حتى قال لسهمي مرحى، بعد برحى وأوشك أن يذوب من غينه، إلى معرفة عينه. قلت: فلنأكل اليوم من حديثه رغداً وإن مع اليوم غداً. ولما افتر ثغر السحر، حسرنا عن ساق السفر، وضربنا في تلك القفر. فما تصرم النهار، إلا ونحن في الأنبار. فنزلنا بها كالشعرة البيضاء في اللمة السوداء. ولما انجابت وعكة الجهاد، ونسخ الهجوع آية السهاد. بدأت بتعهد مجلس الوالي لأتطرق منه على التوالي. وإذا امرأة سادلة النقاب، قد تعلقت بفتى كالعقاب. وقالت: حي الله الأمير وأحياه، وأصلح دينه ودنياه. إن هذا الفتى قد أخذ أبي احتيالاً وفتك به اغتيالاً. وتركني وحيدة في دار الغربة، أكابد عرق القربة، وأتكبد شظف الكربة. وقد رفعت إليك القصة، وعليك مساغ الغصة. فأكبر الأمير شكواها، وسألها البينة لدعواها. فانطلقت كزفير اللهب، ثم عادت عن كثب ومعها شيخنا الميمون وغلامه رجب. فأديها الشهادة على وجهها في وجه الفتى، وانصرف كلاهما من حيث أتى. فأمر الأمير باعتقاله، وجعل في أذنيه وقراً عن تنصله وسؤاله. ثم قال: يا أمة الله إن المنايا على الحوايا. وإن ما عند الله خير وأبقى، فإن شئت قبول دية فذلك أبر وأتقى. قالت: لا جرم أن أبي كان غرة الأبين، وعزة البنين وعقال المئين. وما كنت لأعدل منه سبيدة، بهنيدة. ولا أبدل قلامة، بنخل اليمامة. ولقد كان حية صماء، وداهية دهاء. ولكن إذا جاء الحين حارت العين. وإذا حان القضاء ضاق الفضاء. فإن كنت ترى الدية أولى من القود، وأخلى عن الأود. فذلك أجمل من أن يضيع دمه كسلاغ، وأتبلغ بعده بالنباغ. فأخرج لها الدية من مال القاتل، وحظله أن يبرح البلدة ما أرزمت أم حائل. فلما قبضت الدية أخمدت زفراتها، وأجمدت عبراتها. وأجملت الثناء وأجزلت الدعاء. وأنشدت:
ما اليتم فقد الأب، لكنه ... في الحق فقد الحاكم العادل
ذلك يحي الناس من فيضه ... فيظفر المقتول بالقاتل
قال سهيل: وكانت نفسي قد تاقت إلى سبرها لا كتناه خبرها  فلما انصرفت خرجت في إثرها. حتى إذا أفضينا إلى خلاء عطفت إلي، وأقبلت بوجهها علي. وقالت:
هذا سهيلٌ يفاجي ... في كل أرض أباه
وهكذا كل نجمٍ ... حيث التفتنا نراه
فعرفت حينئذ أنها ليلى الخزامية واستنبأتها عن تلك المقالة الحذامية، والفتكة الحسامية. فقالت: إن هذا الكشخان قد طمع منا في السلب، فخلعنا عليه خلة الأدب وتركناه أتب من أبي لهب. ثم انطلقت بي إلى الخان وأنا كشارب ابنة الحان. حتى دخلت على شيخنا الميني، وإذا عنده صاحبنا القيني. فقلت: سبحان من يحيي العظام، قال: ولو ترك القطا ليلاً لنام. والآن دعنا نتمتع بالحديث، مع صاحبك الحديث، الذي يميز بين القشيب والرثيث، والسمين والغثيث. فقال الرجل: علم الله لقد رأيت أكثر مما سمعت، ونلت أكثر مما طمعت. فليس عبيد إلا عبدك، ولا لقمان إلا لقمة عندك. فقال: يا بني عند الرهان تعرف السوابق، والامتحان يبين الفائق من المائق. وإنني طالما عركت الدهر وقطفت الزهر عن النهر، فلم يغرب عني سر ولا جهر. ولقد خف وقر العار على متني، لو ذادت سوار لطمتني. ولكن لم يفت، من لم يمت فدعني وشاني، واستعذ بالمثاني، من حمة لساني، قال: فسقط في يد الرجل كما سقط، وندم على ما فرط، وقال: سبحان من تنزه عن الغلت والغلط. ثم أقبل على الشيخ بالإجلال، وتقرب إليه بلسان الإذلال. فقال: ضيعت البكار على طحال، وهيهات أن تعلق ثقتي بالمحال. فلما أصر الشيخ على الحفظة وأوشك أن يترامى إلى الغلظة. أشفق الرجل لعرضه من العطب وخالج قلبه أن الرثيئة تفثأ الغضب. فأخرج له بردة ممصرة، وقال: إليك المعذرة. فاضطبنها وخرج، وقال: ليس على الأعمى حرج. وكانت تلك البردة، آخر عهدنا به في تلك البلدة.













مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید