المقامة التهامية
قال سهيل بن عباد: نزلت في غور تهامة، بقوم من أولي الشهامة. فكنا نقضي النهار بالنزاهة، والليل بالفكاهة. حتى إذا كنا في مجلس طرب على صحاف من غرب، فيها أقط وضرب، إذ قيل: قد وفد خطيب العرب. فنزعنا عن لقاء الطيب، إلى لقاء الخطيب. وإذا رجل مقتبل الشباب، على يعبوب يندفق كالعباب. وفي إثره شيخ عليه جبة أتحمية وعمامة عند مية، وهو يرتضخ لكنة أعجمية. فعرفته عند عيانه، على عجمه لسانه. وقلت: هذه فاتحة المساعي وفالية الأفاعي. فلما احتفل النادي جثم شيخنا كأنه صخرة الوادي. وجعل ينضنض كالحية الرقطاء وإذا تكلم يبذل الضاد بالظاء. فاقتحمته أعين الجماعة وعافوا منظره وسماعه. فبات عندهم أهون من درص، وأذل من قيسي بحمص. قال: وكان بين القوم فتنة وشحناء، وضغينة دكناء. فلما أصبحوا قام الخطيب على هضبة واستهل الخطبة. فقال: الحمد لله الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ورضي عمن ذكر بآيات ربه وتذكر. أما بعد: فإن الله جلاله وسما، قد نهى عن الفتنة وقتل النفس الذي جعله محرماً، وقال: إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. وها أنتم قد طويتم الأكباد على الأحقاد. وضممتم القلوب، على الفتن والحروب. وأفعمتم الأحشاء من العداوة والبغضاء. هذا وأنتم من صفوة المسلمين، لا من الجاهلية أو المخضرمين تعبدون رب الشعري، دون اللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى. وعندكم الكتاب المنزل والحديث المرسل. وليس بينكم أحمر عاد،ولا فرعون ذو الأوتاد. فما هذه الغشاوة التي غشيت أبصاركم حتى زرأتم أولياءكم وأنصاركم. أما علمتم ما جرى بين وائل وعمرو، وما جنى بين تغلب وبكر. أتريدون أن تلحقوا بجديس وطسم، وعاد التي لم يبق لها رسم. وتصبح دياركم كإرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد. أما تعلمون أن العود لا ينمو بلا لحاء، وأن ليس الدلو إلا بالرشاء. ومنك أنفسك وإن كان أجدع، وساعدك وإن كان أقطع. وليس النار في الفتيلة بأحرق من التعادي للقبيلة. ومن لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح، وهل ينهض البازي بغير جناح. والآن قد بلغت الدماء الثنن، فلا تجعلوها هدنة على دخن. واعلموا أن الخضم قد يبلغ بالقضم. وليس للأمور بصاحب، من لم ينظر في العواقب. وإما ينزغنكم من الشيطان نزغ فاستعيذوا بالله إنه هو السميع العليم، ومن عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإن الله غفور رحيم. فعليكم بالمصالحة قبل المجالحة. وتحمل الجهل بتجمل الخلق السهل. وخذوا بالهواء واللواء فذلك نعم الدواء. ولا يكن عندكم صوت النذير كصوت البعير. والسلام على من ذكر اسم ربه فصلى، والويل لمن كذب وتولى. قال: فلما فرغ من وعظه واستعد القوم على حفظه. دلف إليه ذلك الشيخ المستعجم، وقال بلسان يحتاج من يترجم: يا مولاي إن للأصوات قيوداً في الحقائق كهدير البعير وحداء السائق. قال: قد أطلقت الصوت للمشاكلة، وإني لأراك من رجال المناضلة. فإن كنت قد جمعت من ذلك نبذة فاجعلها لمسامعنا كالربذة، قال: اللهم نعم، وأنشد بأشجى النغم:
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م