المنشورات

المقامة المضربة

أخبر سهيل بن عباد قال: طرحتني مفاوز الغبراء إلى حواضر مضر الحمراء. فكنت أطوف بها صباح مساء وأتفقد محافل الرجال والنساء. وأنا أسمع المأنوس والغريب، وأتفكه بالغزل والنسيب: حتى جمعت ما استطعت من لغاتهم الجاهلية، وسمعت ما شاء الله من أشعارهم الهوثرية والهوجلية. فبينما دخلت يوماً إلى بعض الأحياء وقد مسني لغوب الإعياء. إذا شيخ طويل النجاد، مزمل ببجاد. قد قام على كثيب مقام الخطيب. فغمض عني توسمه وجعلت عيني تعجمه. حتى اذكرت بعد أمة، أنه الخزامي باقعة الأمة، وشيخ الأيمة. فاحتفزت للنهوض إليه ملتاعاً، وقد أوشك فؤادي أن يطير شعاعاً. فنهاني بإيماض طرفه، وأشار إلى القوم بكفه. وقال: الحمد لله العلي الكبير، الذي أمر بفك الأسير، وجبر الكسير، وكل ذلك يسير عليه غير عسير. أما بعد يا عشائر البشائر وبشائر العشائر. فإنكم معاذ اللاجي وملاذ الراجي. ومورد الصادي، وموعد الرائح والغادي. وبكم يشد الأزر ويمد الجزر. وبعدلكم يوثق الجاني، وبفضلكم يطلق العاني. وإن لي سبية من ربات الحجال قد سبالها بعض زعانف الرجال. وهي بكر رقيقة القوام، كأنها ورد الكمام لها نكهة الخزام وصفاء ماء الغمام، وبهجة بدر التمام. تفتن العقول والألباب، وتستعبد السادة والأرباب. وهي عذبة المراشف، لدنة المعاطف. باردة الرضاب، مقصورة وراء الحجاب تسفر عن مثل السحر، وتفتر عن مثل الدرر، وتسر القلب والنظر. قد اعتقلها هذا الظلوم على فداء معلوم. قد طال عنده عناؤها وعز علي فداؤها. وأخاف أن يدركها الفساد، إذا طال عليها التماد. فهل من ابن حرة، يسعفني على استخلاص هذه الدرة، ويدرأ عني هذه الفجعة المرة فرثى له من حضر، من سراة مضر. وحصبه كل واحد بدينار، وقالوا: بدار بدار، إلى كشف هذا العار فحمد وشكر وابتدر السفر، على الأثر. قال سهيل: فلما فصل الشيخ إلى العراء، قفوته من وراء وراء. فأخذ يدخل من القاصعاء، ويخرج من النافقاء. حتى انتهى إلى حانة أطيب من ريحانة. وجلس بين البواطي وأخذ في التعاطي. فدخلت عليه بنفس أبية، وقلت أين هذه السبية؟ فقد أشفقت أن تكون الصبية. فأشار إلى دستجة من الراح، وقال: هي هذه الخود الرداح، التي تفدى بالأرواح. فإن كنت من جلوس الحضرة، فهذا الماء والخضرة. وإلا فإياك الدخول في الفضول، ثم أنشأ يقول:
ما لسهيل قد أراه عاتبا ... يظنني في ما ادعيت كاذباً
راجع بما وصفت فكراً ثاقباً ... تجد مقالي في الصفات صائبا
لا تحسب الخمر جماداً ذائباً ... بل هي روح فهي يحيي الشاربا
أودعها الخمار سجناً لازبا ... ولم يزل يرد عنها الطالبا
حتى ينال منه حقاً واجباً ... وقد أتيت فربضت جانباً
إذا لم يكن لي النضار صاحباً ... فقمت أعدو في الطريق ذاهبا
إلى حمى القوم فقمت خاطباً ... ونلت من كرامهم مواهبا
إن لم تكن حق فداءٍ راتبا ... فهي جزاء مدحهم، لا سالبا
أخذتها أو سارقاً أو ناهبا ... وعن قليل ستراني تائباً
فيصفح الرحمن عني ثائبا ... يمحو الذي كان علي كاتبا
قال: فكسرت من حوله في احتياله وغوله في اغتياله. وابتدرت التسليم عليه، والتسليم إليه. فقابلني بوجه طلق وحياني بلسان ملق وقال: أعط أخاك تمرة فإن أبى فجمرة. ثم قال: يا بني قد ورد النهي عن الخمر صرفاً، وأنا أشربها بالماء فلا ينكر ذلك شرعاً ولا عرفاً. فاشرب عن يميني إن كنت على يقيني، وإلا فلكم دينكم ولي ديني. فجاريته خوفاً من شر شيطانه الرجيم، وقرأت: "فمن أضطر غير باغ ولا عادٍ فإن الله غفورٌ رحيم". وبت معه ليلةً أصفى من الزلال، وأرق من السحر الحلال. حتى إذا أصبحنا نهض عن الوسادة، وقال: اكتب يا أبا عبادة:
أبلغ سراة مضر ثنائي ... يوماً على تلك اليد البيضاء
من شك في سبيتي العذراء ... فإنها سبية الصهباء
شربتها حمراء كالدماء ... فلا تسؤكم هبة الفداء
عفواً فأنتم مضر الحمراء
ثم ختم الصحيفة واستودعها الخمار، وقال: خذها مغلغلة إلى أحياء مضر بن نزار، وودعنا جميعاً وسار. فانقلبت إلى حيث أتيت وكان ذلك من أعجب ما رأيت.











مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید