المنشورات
المقامة البحرية
قال سهيل بن عباد: شهدت وأبا ليلى عيد النحر في بعض أرياف البحر. وكان ذلك المشهد الميمون، حافلاً كالفلك المشحون. والناس قد برزوا أفواجاً وانتشروا أفراداً وأزواجاً. حتى إذا سكن اللجب وتميز اللباب من النجب. جلس المتأدبون منهم على أديم ذلك التراب، وأخذوا يتذاكرون في حقائق العربية ودقائق الإعراب. حتى إذا أوغلوا في تلك اللجج وأمعنوا في البراهين والحجج. طلع شيخ أعمش العين، أعنش اليدين. فمسح بيديه أطراف السبال، وأشار إلى القوم وقال: الحمد لله الذي جعل العربية أفصح اللغات، وجمع فيها أصول البراعات، وفصول البلاغات. أما بعد فاعلموا يا غرة أهل المدر وقرة أهل الوبر. أن هذه اللغة المستحسنة فريدة عقد الألسنة. وهي خلاصة الذهب الإبريز، التي بها ورد الكتاب العزيز. ولها الفنون العجيبة والشجون الغريبة. والألفاظ القائمة بين الجزل والرقيق، والاختصار المؤدي إلى المراد من أقرب طريق. وفيها الاستعارات والكنايات، والنوادر والآيات. والبديع الذي هو حلاوتها وحلاها، والشعر الذي لا نظير له في سواها. فضلاً عما بها من الحدود والروابط والقيود والضوابط. والإعراب الذي يقود المعاني بزمام، ويرفع الإبهام، عن الأوهام. وإني لأرى الناس قد نقضوا ذمامها، وقوضوا خيامها ورفضوا أحكامها. فضاع مفتاحها، وانطفأ مصباحها وتكسرت صحاحها. حتى لم تبق لها حرمة ولا شأن، ولم يبق من يتصرف بها من أهل هذا الزمان. فصار عندهم الناحي، كاللاحي. والشاعر، كبعض الأباعر. وعالم اللغة أحمق من دغة. ولقد ساءني ما فعلت بها الأيام، حتى بكيت على أطلالها التي عفاها عصف السهام، ولا بكاء عروة ابن حزام.
فحافظوا على درس طروسها، وجاهدوا في سبيل إحيائها بعد دروسها. فإنها الدرة اليتيمة، والحرة الكريمة. واللهجة التي لم ينطق اللسان بمثلها، والمطية التي لا تذل إلا لأهلها. وعلي أن انتصب لإفادتكم ما أبقى الدهر لي رمقاً، ولا أخاف نجساً ولا رهقاً. قال: فلما فرغ من خطبته، ونزل من مسطبته. تلقاه الخزامي بثغر باسم وحياه كعادة المواسم. وقال: يا مولاي ما أنا لديك بمن يساجل، فأين الفارس من الراجل والقناة من الزاجل ولكنني رأيتك ابن بجدتها، ورب نجدتها. فأردت أن أستفيدك عما يفيدك الثواب، إن مننت بالجواب. قال: سل، ولا تبل. فقال: كيف يمنع التصغير عمل الصفة، ولا يصرف الأسماء الغير المنصرفة؟ ولماذا لا تمنع العلمية والوصف، وهما الركن في موانع الصرف؟ وكيف تبنى أي في نحو أيهم أشد، ولا تبنى في نحو أيهم يرد؟ ولماذا لا يباح في العلم دخول اللام، فإذا ثني أو جمع دخلت بسلام، ولماذا تسقط نون الإعراب كالتنوين من المضاف، وتثبت في غيره على الخلاف؟ ولماذا يجوز الإخبار بالأعلام مع أن من شرطه الإبهام؟ وبماذا يتعين البدل أو البيان، في نحو قام أخوك عثمان؟ وكيف يتبع اللفظ في نحو يا زيد الصابر، ولا يتبع في نحو مضى أمس الدابر؟ وكيف يكسر في نحو يا زيد الصابر، ولا يتبع في نحو مضى أمس الدابر؟ وكيف يكسر الساكن في القوافي، ولا ساكن بعده يوافي؟ وكيف يصير الجائي، إلى مثال الرائي؟ ولماذا يتغير الفعل المسند إلى الضمير المتصل، بخلاف الظاهر والمنفصل؟ وإلى كم ينتهي عدد الضمائر، عند أولي البصائر؟ قال: فلما سمع الشيخ هذه الأسئلة، قال: إنها لمن المسائل المشكلة فإن كان لك في ذلك يد، فقد أجلتك إلى الغد. قال: بل لا أعدو الساعة، إن تبرأت من الصناعة، بمشهد الجماعة. وأخذ يفض أغلاق ختامها حتى أتى عليها بتمامها، وقال: قد رأيتم من يملك زمامها، ويرفع أعلامها، فدعوا أحاديث طسم وأحلامها. فاستغزروا عارض سيله وتعلقوا بردنه وذيله. فقال: إن لي أسيراً أسعى في فدائه، قبل أن يهلك في عنائه بدائه. فلينفق ذو سعة من سعته، وكل يعمل على شاكلته. فأولج كل واحدٍ يده في هميانه، وأخرج له ما شاء الله من لجينه وعقيانه. فانثنى بعدما ودع وهو قد أثنى فأبدع. حتى إذا ولى قذاله ورجوت ابتذاله. حلت دون مسيره، أو يعرفني بأسيره. فقال: يا بني قد شربت في حان سويد بن الأضبط فاسترهن مني البربط. وهو ريحان نفسي، وريعان أنسي. فإن شئت أن تصحبني إلى العقبة، وتشركني في تحرير رقبة. وإلا فاذهب بالسلامة، ولا ملامة. قلت: لا جرم أن تقرير الرق، خيرٌ من تحرير البربط والزق. وانثنيت عنه فوراً، وأنا أمدحه تارةً وألومه طوراً.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)