المنشورات

المقامة الرصافية

حكى سهيل بن عباد قال: سمرت ليلة بالرصافة، مع كرام من أولي الحصافة. فبتنا نتلاعب بأطراف الكلام المشقق، ونتجاذب أعطاف الحديث المرقق. حتى أدانا حصر الحصر إلى ذكر أفراد العصر. فقال بعض القوم: ما أدراكم من وفد اليوم قد وفد الخزامي الذي إذا انبرى لا يبارى، وإذا جرى لا يجاري وإذا حدث ترى الناس سكارى. فأعجب القوم بارتقائه، وقالوا: من لنا بالتقائه؟ قال: إن شئتم أن تتخذوا إليه سبيلاً، فاتخذوني دليلاً. فلما أصبحوا قالوا: أنجز حر ما وعد، قال: ومن جد وجد. ثم انطلق بنا كالشملة الرافلة حتى أتينا القافلة. وإذا الشيخ قد ثار كأنه من رضفات العرب،وقال: قد أصابني سهم غرب، فالحرب بيننا والحرب. قال: وكان بين يديه رجل أدرم أثرم، ينزو كالقضاء المبرم ويسطو كأبرهة الأشرم. فقال: قد عرضت فرسينا للرهان، وجعلت مضمارنا البرهان. فإن كنت من طوارق الليل، فما قيود الأسنان والألوان في الخيل؟ فأطرق إطراق الأفعى، ثم قال: خذها حية تسعى، وأنشد:
المهر في حوليه باسم الجذع ... يدعى، وبالثني في التالي دعي
ثم الرباعي بعده في الرابع ... وقارح في الحجج التوابع
وهو على اختلاف لون جلده ... يدعي بأوصاف جرت في نقده
فأدهم وأبيض وأحمر ... وأشقر وأصفر وأخضر
حتى إذا اشتد سواد الأدهم ... يقال فيه الغيهبي فاعلم
فإن ينقط ببياض أنمش ... قيل، ومع ذاك سواه أبرش
فإن تكن نقطه تتسع ... فإنه مدنَّرٌ فأبقع
وإن يشب بعض السواد الأبيضا ... فذاك بالأشهب في الوصف قضى
وإن أصاب الأحمر السواد ... فبالكميت وصفه المعتاد
فإن عرا الكمتة لون أشقر ... فذلك الورد الذي لا ينكر
وإن يك الأشقر فيه خلس ... من السواد قيل هذا أغبس
وإن رأيت أصفراً يمتد ... فيه السواد فهو السمند
فإن عرا الصرة لون شهبه ... فالسوسني وصفه بالنسبة
وإن يك الأخضر فيه يحوى ... شيء من السواد فهو الأحوى
قال: إن كنت من أولي الكمال، فما مثل ذلك في الجمال؟ فاضطرب اضطراب السراب، ثم أنشد وما استراب:
أول نتج الناقة الحوار ... يدعى كما جاءت به الآثار
وهو لعام واحد فصيل، ... وابن مخاض بعده تقول
وابن لبون ثم حق جذع ... ثم الثني فالرباعي يتبع
ثم الديس بعده والبازل ... والعود في العشر رواه الناقل
فإن صفت حمرته فأحمر ... قيل له وهو لديهم يؤثر
فإن تشبها دهمة فأرمك ... والجون ما فيه السواد أحلك
وذو البياض آدماً يلقب ... فإن علته حمرة فأصهب
فإن يكن بياضة يلتبس ... بشقرة، فهو البعير الأعيس
والأخضر المصفر في سواد ... يدعى بأحوى اللون في البوادي
قال: فلما رأى الرجل ما رأى من طوله باعه، وريع رباعه. قال: قد حق علي الخرس وحقت لك الفرس. فهلم إليه وخذها غير مأسوف عليها. فاستعظم القوم أمره، واستهالوا غمره. وقالوا: من تمام العمل، أن نزيدك الجمل. قال: إذا ملكت الخطام، فما أبالي بالحطام. ثم سبح وتشهد وترنح وأنشد:
إذا كان العباد بكل عصر ... شمال غريبة فأنا اليمين
سلوا عما أردتم من فنون ... فعند جهينة الخبر اليقين
قال سهيل: فلما انصرف أصحابي قلت هذا مشواي، وقد شغلت شعابي جدواي. قال: أنت على الرحب والسعة، ولك الرغد والدعة. فأقمت في صحبته بأم العراق حتى حم الفراق.












مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید