المنشورات
المقامة اللاذقية
حدثنا سهيل بن عباد قال: عن لي أرب، في لاذقية العرب.
فقصدتها من خناصرة مع رجل صنافرة، يتبرد بالهجرة. فآدتني صحبته الغلوب حتى أدتني إلى اللغوب. فدخلت المدينة، كما تدخل الدلو العدنية. ونزلتها واهن العواهن لا خدن لي ولا عجاهن. وكان بدار منزلي السفلى، مدرسة حفلى. فكنت أزورها لماماً، وأقوم بها إماماً. حتى إذا كنت يوماً بمحرابها، بين أضرابها وأترابها. دخل شيخ كفيف، يقوده غلام خفيف. وهو قد اعتمر بصماد، وسدل له عذبه كالنجاد. فلما وقف بنا لاحت عليه الأريحية، وحياناً بأحسن التحية. ثم قال: حمداً لمن له الحمد والمنة، الذي جعل المدارس أبواب الجنة. أما بعد فإن الله قد أمر بالقراءة وأقسم بالقلم، وهو الذي علم به الإنسان ما لم يعلم. فلا جرم أن هذه الصناعة أرجح الصنائع وأربح البضائع. وعليها مدار السنة والكتاب، وبها حيوة العلوم والآداب، ومنها استنارة العقول والألباب. وهي عنوان السيادة وعنقوان السعادة. وآية الفلاح، وغاية الصلاح والإصلاح. ولولاها لدوست الأخبار، وطمست الآثار. وهلكت أموال التجارة، وضاعت حقوق القضاء والإمارة. فثابروا أيها الولدان المخلدون، ولا ترضوا من الصناعة بالدون. وإذا قرأتم فافتحوا الطرف، وأظهروا الحرف. والزموا الدرس ولا تكثروا الهمس. وإذا أردتم أن تبروا القلم، فاشحذوا الجلم. وأطيلوا الجلفة وأسمنوها، وحرفوا القطة وأيمنوها واحرصوا على صحة التصوير، وإحكام التحرير، وتقويم الأساطير. وأعلموا أن المناقش، سيتلون عليكم بأبي براقش. فلا تدعوا له سبيلاً أن يلوم، ولا تمكنوه من حجة تقوم وعليكم بعفة اليد واللسان، ونقاء الثوب والبنان، وسهولة الخلق بين الأقران، والمذاكرة في آيات القرآن. لتكونوا زينة الحيوة الدنيا، كما أنزل الله كلمته العليا. وأما الأستاذ فليكن عفيقاً غيوراً، لطيفاً صبوراً، أديباً وقوراً. ماهراً في صناعته، باهراً في وداعته. ليس بالشديد العتي، ولا البليد العيي. يرغب في أن يفيد كما يرغب في أن يستفيد. ويجتهد في تربية من تحت لوائه، كما يجتهد في تربية أبنائه. وليعلم أن التلامذة أمانة الله في يده، ويتأهب في يومه لما سيحاسب عليه في غده. ثم أقبل قبل المشهد، وأنشد وهو قد تنهد:
يا من لهم في السجايا ... عينٌ وجيمٌ وباء
ما طالب لي في سواكم ... نونٌ وعينٌ وتاء
عهودكم ليس فيها ... نونٌ وكافٌ وثاء
وحظكم كل يوم ... ميمٌ ودالٌ وحاء
وإنني في حماكم ... شينٌ وياءٌ وخاء
لو يبق لي في بلائي ... صادٌ وباءٌ وراء
أنتم لكل فقير ... كافٌ ونونٌ وزاء
وفي أكف نداكم ... باء وسين وطاء
هل عندكم نحو شيخ ... لامٌ وحاءٌ وظاء
وحسبه من رضاكم ... عينٌ وطاءٌ وفاء
دياركم للأماني ... واوٌ وجيمٌ وهاء
شين وباء وعين ... فيها وراءٌ وياء
قال: فلما فرغ من أبياته الحسان، تعلق به أولئك الغلمان. وقالوا: إنك نعم الأستاذ، والعقوة التي بها يلاذ. فنحن هواك ولا نريد سواك. فأشفق الأستاذ من صرم حباله، هاجت بلابل بلباله. فأسر إلي النجوى وباح لي بالشكوى، من هذه البلوى. وكنت قد عرفت الشيخ أنه حامي الحمى، وإن كان قد تظاهر بالعمى. فقلت للأستاذ: إن كنت قد أجفلت من مواء السنانير، فأعطني له قبضة من الدنانير. وأنا أدرأ ما في نفسه قد أوجس وأدعه لا يأتيك سجيس الأوجس. فناولني ما شاء، وقال: أتبع الدلو بالشاء. فدعوت الشيخ إلى خلوة، وبثثته المرة والحلوة. فقهقه كما يقهقه الرعد، وقال: بكل واد بنو سعد. فعده وعد السموأل، أن أسامة لا ينزل في وجار جيأل. قلت: فكيف تعاميت وأنت أبصر من فراس في بهماء غلس. فنظر إلي نظرة الضرغام، وأنشد بصوت كالبغام:
تخلق الناس بالأدناس واعتمدوا ... من الصفات الدها والمكر والحسدا
كرهت منظرهم من سوء مخبرهم ... فقد تعاميت حتى لا أرى أحدا
ثم انطلق بي إلى مثواه وقاسمني شطر جدواه. وقال: أنت الليلة ضيفي وأنا غداً ضيف الهجير، فإن الصقر متى صاد بصير. فقضيت معه ليلة أرق من السابرية، وأطيب من الجاشرية. حتى نسخ الصبح آية الظلام، ونشر على الأفق حمر الأعلام. فودعني وذهب وأودعني اللهب.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)