المنشورات

المقامة السوادية

حكى سهيل بن عباد قال: خرجت على ناقة أجد كأنها طود أحد. فاندفعت بي تنهب الطريق، وتخترق الشيق والنيق، حتى أشرفت على تنوفة حافلة بالأشائب، مشحونة بالركائب والجنائب. وكانت الشمس قد جنحت إلى مغاربها، فألقيت حبل ناقتي على غاربها. حتى إذا أدركت القوم ملت عنهم بعض الميل، وقلت أخوك أم الليل. قالوا: إن أخاك من آساك، فلا تطل أساك. فلما آنست منهم أنساً طبت قلباً ونفساً. فعرجت إلى المعرس، وقمت بينهم أتفرج وأتفرس. وإذا الخزامي بين قوم قد تأزروا كالعيص، وهم يتعاطون رحيقاً كالهصيص، برفد كالأصيص. فلما رآني قال: نور على نور، قد التقى سهيل بالشعرى العبور فبتناها ليلة رقيقة الحواشي، صفيقة الغواشي. حتى إذا جشر السحر، تداعى القوم للسفر. وكانت المزاود قد خفت والمزاد قد جفت فجعلوا يمزجون الإسراء بالمسير، ولا يبالون بابن ثمير أو جمير. وما زالوا يضربون في الآفاق، حتى تبطنوا سواد العراق، فنصبوا السرادق، وانتصبوا حوله كالرزادق. قال: وكان هناك شيخ من علماء البلدين، كان يلم بنا في الأبردين. فدخل يوماً إلى فناء المسجد، وإذا الحزامي هناك ينشد:
عاتبوني على القطيعة لما ... طال عهد النوى وطال النفار
قل لهم: إن من يزرني أزره ... كل يوم ومن يزور يزار
فتلقاه الشيخ متعرضاً، وقال له معترضاً: إن إخلال مثلك بالإعراب، مما يعد من الأغراب. فوثب شيخنا السرندي كأنه السبندي، وقال: أجل وسقوط مثلك في الوهم، مما يدق على الفهم. إن كنت أنت الفراء، أو معاذ الهراء، فأين يعود الضمير على مطلق التأخير؟ وكم هي أوجه الشبه في بناء الأسماء، وكم أقسام التنوين عند العلماء؟ وأي لفظ يستوي استعماله اسماً وحرفاً، ويستعمل في حرفيته ظرفاً؟ وأي مضاف ينصب المضاف إليه، ولفظهما لا يطرأ التغيير عليه؟ وأي الأسماء يعرب من مكانين؟ وأيها يحتاج إلى معرفين؟ وأيها يكون في الإعراب والبناء بين بين؟ وأيها يعرب أصله ويبنى فرعه؟ وأيها يمنع من الصرف مفرده وجمعه؟ وأيها يكون ثلثاه زوائد؟ وأيها لا يبقى منه إلا أصل واحد؟ وأين تقوم أربعة أحرف في الحفظ، وتسقط كلها في اللفظ؟ وكم هي طرق الإعلال، في الأسماء والأفعال؟ قال فأخرد الشيخ من الإعياء، وأقرد من الحياء. فقال الخزامي: ويحك إن كنت من حجارة الحرار، فإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ولقد أجلتك إلى قباقب، عسى أن يتراءى لك النجم الثاقب. فاشتد بالشيخ الوجوم، حتى تعذر أن يفوه ولو بمثل نقيق العلجوم. فلما رأى ماءه ينضب ولونه كحرباء تنضب، رقيت له منه بنات ألبب. فأخذ معه في التلطف والتعطف، ونبذ عنه التصلف والتعسف. فلما خمدت جذوته وأنست جفوته. قال: علم الله ما بي أن أرتج علي، في ما ألقي إلي. ولكن أن يتندد ذلك فتسقط حرمتي، وينصرف الناس عن تكرمتي، فإن شئت أن تقبل هذا الطيلسان حني، وتكتم هذا الشأن عني قال: لا خوف، إني أوفى من عوف وحاشا الله أن أنث لك سراً، أو أغمط منك براً. ثم خرج يميس في طيلسانه كالعطبول، وهو يقول:
قل لمن شئت في العراقين: إني ... قد حباني الإمام بالطيلسان
مأرب لا حفاوة من حريص ... رام بالطيلسان طي لسان
قال سهيل: فلما فاء الشيخ إلى فسطاطه، وعلموا ما كان من تبريزه واشتطاطه، وانخذال صاحبه وانحطاطه. باؤوا له بحق الزعامة وبوأوة ذروة الكرامة. فلبث في صحبتهم أياماً، لا يتجشم نفقة ولا طعاماً. حتى إذا أزمع البين، أدلج لا كسعد القين، وهم يفدونه بسواد القلب والعين.











مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید