المنشورات

المقامة الدمياطية

قال سهيل بن عباد: أزمعنا الشخوص إلى دمياط، في ركب من الأنباط. فأعددنا النواطق والصوامت، وأغذذنا حتى كلت بنا الشوامت. وما زلنا نطأ الوعث والجدد، حتى أفضينا إلى البلد. فدخلناه على كل طلوح وقد دلكت دلوح، واغبر لوح اللوح. فلما انجابت وعثاء الخلج وانجلت أغثاء الرهج. برزنا نجر الأردية، حتى مررنا ببعض الأندية. وإذا الخزامي ورجب تليهما امرأة بادية الحدق، منادية بالحرب. فتقدم رجب كالأيهم، وهو قد بسر وتجهم، كأنه من جن جيهم. وقال: حي الله السادة الذين يحمون الحقيقة، وينسلون الوديقة ويسوقون الوسيقة. إن امرأتي هذه عجوز حمقاء قرثع خرقاء.
مترهلة خدبة، خنثلة طرطبة. تلقاني بلمة بيضاء وبشرة سوداء، وعين صفراء، ونكهة دفراء. توشك أن تأكل البعير وتشرب الغدير. وهي على ذلك بذية اللسان، عرية من الإحسان. لا تذكر حرمة ولا تشكر نعمة. تهر كالكلاب وتعوي كالذئاب. إذا استقبلتها لطمث، وإذا أدبرت عنها رجمت. تشدخ بظفر كالمخلب، وتنهش بناب كسنان قعضب. ولقد كانت تلطم بكفها، فصارت تلطس بخفها. وكانت تمنحني الدخول إلى الدار، فصارت تمنعني المبيت حول الجدار. وقد منيت منها بالداء العياء والداهية الدهياء. إن هممت بطلاقها، عجزت عن صداقها. وإن تكلفت عليها الجلد، فلا قرار على زأر من الأسد. فثارت تلك المرأة السفيهة، وقالت: يا للعضيهة قد هتك هذا الوغد أستاري، حتى كأنه جردني من أطماري ويلك يا أنقس، يا ابن الفلنقس أما تذكر عيبك، وريبك؟ وشؤمك، ولؤمك؟ وفاقتك المدقعة، وأسمالك المرقعة؟ تأتيني كل يوم بمعتبة، وما في يدك عنظبة. ثم تجلس على التكرمة، وأنت شامخ الهرثمة. فتأخذ في الأمر والنهي والإيجاب والنفي. وتقول: يا حبذا الإمارة، ولو على الحجارة وزوج من عود، خير من القعود. ساء ما تتوهم، وشاه وجهك الأدهم وليت شعري ما أصنع برجل أبرد من عبقر، وأذل من فقع بقرقر. ليس له ثاغية ولا راغية. ولا عنده حضض ولا بضض. وهو على ذلك أظلم من الخيفقان، وأنقص من الزبر قان. يشبب بالملامظ واللواحظ، وهو أقبح من الجاحظ. ويدعي ببداهة ابن جماعة، على بلاهة بني خزاعة، ويقذف بهجو جرول ولا يعرف أدب الأخطل. ولكن قد جرى القلم ومن أشبه أباه فما ظلم. قال: فثار الشيخ كمن مسه الجنون، ودار حولها كالمنجنون. وقال: يا دفار أما اكتفيت بفعلك مع بعلك، الذي وطئته بنعلك حتى تتعرضي لي بجهلك، وتلحقيني بعار أهلك؟ إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً، ورب قرارة تسفهت قراراً. ثم اقتحمها فاندفعت ورفسها فانصرعت، ثم قامت فوقعت. وهي تشتم بكل شفة ولسان، وتبربر بما لا يفهمه إنس ولا جان. فأضحكت القوم كما أضحك الصحابة نعيمان، أو الهدهد جنود سليمان. فقال الشيخ لصاحبها: طلقها بتاتاً، لا جمع الله له شتاتاً وعلي تحصيل ما تخشى منه الأثقال، ولو كان ألف مثقال. فما نشب أن طلقها كما أشار، وأخذ الشيخ يطوف على القوم وهو يقول: النار، ولا العار حتى إذا فرغ من مسعاه، دفع إليها ضغث مرعاه، وقال: اذهبي فقد أينعت دوحة الصبر، وتمتع المهتاض بالحبر. فقالت: هبلتكما الهوابل، ولا بشرت بمثلكما القوابل "هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فدعهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يوم الذي يوعدون". ولما أدبرت تلك الدردبيس، أقبل الشيخ على القوم كالعنتريس. وقال: قد غبر من نوالكم قذعملة لا تقضي أشكلة. فإما أن تستردوها، أو تزيدوها. فرشحوا له ببلالة وقالوا: خذ من القطوف مادنا، وقل: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. فانقلب لهجاً بحمدهم مبتهجاً برفدهم. قال سهيل: فلما باء على حافرته، في أثر زفراته. تعقبته لأعرف تلك الشهربة الطالق، فإذا هي ابنته العاتق. وهي قد نقضت عنها الهرم واستوت كبانة العلم. فعجبت من غرابة حاله، وخلابة محال، واغتنمت صحبته إلى أوان ترحاله.













مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید