المنشورات

المقامة النجدية

قال سهيل بن عباد: عبثت بي لواعج الوجد، إلى زيارة نجد. فتسنمت الأكوار، وطويت الأنجاد والأغوار. حتى نقعت بحلولها غلتي بعد اللتيا والتي. فلما سرت عني وعكة السرى، وقضت أجفاني وطر الكرى. قمت أطوف الحلة بعد الحلة وأتفقد الأحياء المشمعلة. حتى إذا كنت صبيحة يوم، بمنتدى زعيم القوم. وفد شيخ أوهى من الشبام، يليه فتى أشهى من البشام. فجثم الشيخ محقوقفاً وانتصب الفتى محصوصفاً. وقال: أعز الله الوالي، وأذل له أعناق الموالي، إن هذا الشيخ قد استعبدني منذ عام، كما تستعبد أولاد حام. وهو عبيد فلسه، لا يقوم بميرة نفسه. فتراه ألام من أسلم. وأحمق من عجل، وأقلق من الحجل، في الرجل. بيد أنه ملاق مذاق سفساف شقشاق. لا يزال يهذر ويهذرم، ويبربر ويدمدم. ويلغو بالكلم الجاهلية، ويعبث بالتمويهات الخزعبلية. إذا طلبت منه قطعة، أنشدني أبياتاً سبعة. وإذا قلت: لي مسألة، قال: هات الدواة والمرملة. وإذا التمست منه الصرف، جاءني بألف حر. وهو يتأنق بهجن جامدة، من لغة العرب البائدة، ليس لها طلاوة ولا فائدة. فثار الشيخ كالمعتوه، وقد أزبد فوه. وقال: بهراً لك يا عفنقس، يا ماقط الأنقس متى تشدقت بهذه الشغاشغ، وتمطقت بهذه الضغاضغ؟ ذرعنك هاتي الجعظرة الخضمة، والفظاظة المضلخمة. وإلا قفخت رأسك العفنجج، ولو كنت حفيد العر نجج. قال: فضحك القوم من هذا التنصل، الذي يشهد للتهمة بالتأصل. وكان بينهم رجل أضجم، فتبازخ كالتيار الأعجم. وقال: إني أراك في العربية راسخ القدم، فهل تعرف أيام الأسبوع في القدم؟ فتخازر تخازر القيان، ثم قال: جرى ابنا عيان فاستجل البيان. وأنشد:
لأول الأسبوع قيل أوهد ... في قدم الدهر وأهون الغد
ثم جبار بعده دبار ... مؤنس عروبة شيار
قال: لا تربت يداك، ولا طربت عداك إن كنت تعرف ألقاب الشهور، فأنت العلم المشهور. فاكتام واشرأب ثم جثم واستستب. وأنشد:
مؤتمر وناجر خوان ... من لقب الأشهر والصوان
زباء بائد أصم واغل ... وبعد ذاك باطل وعاذل
ورنة وتيرك الختام ... وقيل غير ذاك والسلام
قال: لله درك ما أبعد غورك، وأقرب نورك فاختم بذكر الأشهر الحرم، إن كنت ممن أتم فاكرم. فقال: اللهم اجعلنا ممن حسن ختامه، وانجلى قتامه. ثم أنشد:
ثلاثة من الشهور سرد ... وواحد عقيب ذاك فرد
ذو قعدة وحجة محرم ... ورجب وهي الشهور الحرم
قال: فلما رأى القوم اتساع روايته، وارتفاع رايته. علموا أنه صل أصلال فنظروا إليه بعين الإجلال. ولما رأى إقبالهم عليه، وارتياحهم إليه. قال: يا جهابذة اليلامع، وهرابدة المعامع. علم الله أني لست بجعد الكف، كما يزعم هذا الهجف. ولكن قد أناخ الدهر علي بكلكله، وأخنى علي الهرم بأفكله. فلم يبق لي عافطة ولا نافطة. وصرت أسغب من السيدان، بعدما كنت أقري الهيدان والزيدان. ولو استطعت أن أقوم بأمري، لأطلقت هذا الفتى من أسري. ولكنني ما زلت أعلل نفسي بالمنى، وأمنية بالغنى. لعل الله يقيض لي فتحاً قريباً أو يكتب لي بمثلكم نصيباً. قال: استعذب القوم كلامه، واستعذروا غلامه. وقالوا: قد كتب ربك على نفسه الرحمة، لكن ما كل سوداء تمرة ولا كل بيضاء شحمة. فإن الناس قد لؤموا وجشعوا، حتى لو سئلوا التراب أو شكوا أن يملوا ويمنعوا. فإن شئت أن تجاورنا غابر هذه الشيبة، وتكتفي ذل السؤال وغصة الخيبة. وإلا فخذ هذه النحلة، واعتمد الرحلة. قال: حبذا جواركم لولا ضفف خلفت، وموعد أخلفت. فوصلوه كل واحد بدينار، وارحلوه ناقة ذات سفار. قال سهيل: وكنت قد تنسمت ريح خزامه، وظلفت نفسي عن التزامه. لما شق العصا خرجت في أثره، حتى صرت بمرمى بصره. فقال: أنت من المولدين في هذا الزمان، لا تعرف لغة يعرب بن قحطان، فعد إلى أن يصادفنا ترجمان. ثم انسدر يعدو كالظليم وغادرني كالسليم. فعدت وأنا أعجب من فنونه، في جده ومجونه.










مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید