المنشورات

المقامة العكاضية

قال سهيل بن عباد: خرجت للتجارة في البوادي، مع صاحب كسلام الحادي. فكان يطربني بحدائه الأنيق ويحبب إلي طول الطريق. وما زلنا نطوي بساط الفجاج، وننشر لواء العجاج. حتى أتينا سوق عكاظ، في هاجرة كالشواظ. فانخنا كهشيم المحتظر وإذا الناس كالجراد المنتشر. وقد أخذ بعضهم في المناشدة والملاجزة، وبعضهم في المحاجاة والمعاجزة، وبعضهم في المفاكهة والمجازرة. فجعلنا نطوف بين تلك الطوائف، ونجتني القطائف واللطائف. حتى مررنا بلفيف من نواصي العرب، وإذا الخزامي بينهم ورجب. وهما قد أخذا في المباراة والمحاورة، والمجاراة والمساورة. حتى مالت إليهما كل صاغية، وتفتقت لهما كل فاغية. فلما رأى الشيخ انصباب الناس إليهما، وانصيابهم عليهما. اخرنشم واخرنطم، واندفق على صاحبه كالغطمطم، وقال: ويلك يا أبرد من حرجف، وأيبس من حرشف قد أردت أن تطاول السمهرية، بالسندرية. وتطارد العناجيج، بالحراجيج، فإما أن تسلبي أطماري اليوم، وإما أن أجردك بين القوم. قال: اشحذ غرارك يا شيخ النار، واستهد لسهام العار قال: إن كنت من الأدباء، فما قيود الأبناء، باعتبار ضروب الآباء؟ قال: قد ناديت مجيباً، وعاديت نجيباً. ثم أنشد:
للخيل مهر وحوار للجمل ... والجدي للمعزي وللشاه الحمل
والعجل للثور وللحمير ... عفو، كذا الخنوص للخنزير
وشبل ليث ولضبع رعل ... وجرو كلب ولفيل دغفل
غفر لو عل وفرار للفرا ... كذاك يعفور مهاة ذكرا
وخرنق لأرنب، وتتفل ... لثعلب، ولابن آوى نوفل
طلا الغزال ديسم للدب ... جارن حية وحسل الضب
وشقذ حرباء كذا للنمل ... ذر، وجاء هرنع للقمل
قر الدجاج، الرأل للنعام ... غطريف باز جوزل الحمام
للكروان الليل، والحباري ... قد ذكروا لفرخها النهارا
وللعقاب ضرم، والحجل ... للفرج منها سلك يستعمل
والدرص للهرة واليربوع ... والفأر جارياً على الجميع
قال: قد أحكمت السداد، وإن كنت سبد أسباد. فما هي أصابع الراحة، وما بينهن من المساحة؟ قال: راجل يسابق الفارس، ومحترس من كيده وهو حارس. ثم أنشد:
قل: أول الأصابع الإبهام ... وبعدها سبابة تقام
وبعدها الوسطى، يليها البنصر ... وبعدها الصغرى أخيراً خنصر
وبين إبهام وصغرى شبر ... وما إلى سبابة ففتر
وبين ذات الفتر والوسطى رتب ... وبين ذي الوسطى وبنصر عتب
والبصم بين خنصر ومايلي ... وبين كلهن فوت الخلل
قال: إن عرفت مراتب النبات، أنت من ثبات الثبات. ضحك حتى زجا، وقال: قد أشرقتني بالشجا. ثم أنشد:
أول نبت الأرض بأرض إذا ... لم يتميز، والجميم بعد ذا
وبعده البسرة الصمعاء ... ثم الكلا، فلتحظ الأسماء
فلما فرغ من إنشاده أحجم الشيخ القهقرى، فازدلف إليه يمشي الخيزري. وقال زعمت يا شيخ مهو، أن البلاغة باللهو، وأن المخدرات ي البهو. فاخلع إذا ما عليك حتى نعليك. وإلا وقصت جيدك حتى الكاهل، ولو كنت من العباهل. ثم أخذ بحبل وريده وأصر على تجريده. فجعل الشيخ يدور كاللولب، ويرفس كالتولب، والفتى يتعلق بثيابه، ويحول دون انسيابه. فأخذت القوم الأنفة، وساءتهم تلك الهجنة المؤتنفة، والمعرة المكتنفة. وقالوا: نحن نفدي هذه الذعاليب، بقشب الجلابيب. فخل عنك العنف، ولا تبله بمطفئة الرضف. قال: علم الله ليس من وسني هذه الأطمار، ولكن أريد تأديبه بالخزي والشنار لا يلج بعد ذلك في مثل هذا الباب، ويلقي نفسه بين المخلب والناب فتصر عليه رجل الغراب. قالوا: إن عندنا من الفروض، شراء الأعراض بالعروض. على أن تكون ناصح الجيب، في الشهادة والغيب، فلا تسود وجه الشيب. ثم جاؤوه بحلة وضرة، وقالوا: إن في ذلك لأعينكما قرة، والله لا يضيع مثقال ذرة. فاضطبنهما وقال: قد دبر القوم تدبير من طب لمن حب، فادرج أيها القرشب، وخل درج الضب. فتعلق به وقال: إنك بي قد وصلت إلى ما وصلت، وحصلت على ما حصلت. فهلم نقتسم شق الأبلمة ولا يسمع الناس لنا أيلمة. قال: هذا البحر فاغترف، وإلا فانصرف، فانتشب بينهما الجذب والدفع، حتى أفضى ذلك إلى الصفع. فرثى القوم لشيخه الجلحاب، وأمطروه كسفاً من سحاب. وقالوا: باءت عرار بكحل، فدونكما الرحل، وحسبكما الضحل. فقالا: شاعكم السلام، وانطلقا بسلام.














مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید