المنشورات

المقامة المكية

حدث سهيل بن عباد قال: قدمت مكة، في ليلة عكة، فنزلت ببكة. ولما أصبحنا كان يوم طلق، حسن الخلق والخلق. فجعلت أتفقد المناسك والمشاعر، وأتردد بين العشائر والمعاشر. فبينما أنا أستشرف وجه الدو، كأنني زرقاء جو. رأيت ركباً يمشون الهرجلة على مطايا همرجلة. فناجتني القرونة أنهم الخزامي وصاحباه، حتى ازدلفوا فإذا هما هما وإذا هو إياه. فوجدت ما يجد من بشر بالماء، على فورة الظماء. وابتدرت إليه كالغداف، فالتقاني كفارس خصاف. واعتنقنا حتى صرنا في التزامنا الدرجي كأننا المركب المزجي. ثم تبوأنا صهوات الخيل، وأتينا المدينة في ناشئة الليل. كان يومئذ قد أذن في الناس بالحج، فأتوا رجالاً وعلى كل ضامر من كل فج. فلبثنا يوماً أو بعض يوم، نطو بمحافل القوم. حتى مررنا بلفيف مقرون كأمثال اللؤلؤ المكنون. لما وقف الشيخ بهم قال: سلاماً، ثم قام أمامهم إماماً. وقال: الحمد لله الذي أمر بحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ووعد عباده المتقين جنات تجري من تحتها الأنهار وعيناً تسمى سلسبيلاً. أما بعد يا معاشر العرب الكرام، وحجاج البيت الحرام. فإن الله لا يرضى بالوذائم والضحايا ممن أصر على الخطايا. ولا بزيارة الحرمين ممن فاه بالنميمة والمين. ولا باستلام الحجر، ممن طغى وفجر. ولا بالطواف حول البيت، من نشاوي الكميت. ولا برمي الجمار، من ذوي الشحناء والأغمار. إن الله ينظر إلى السرائر المكمنة، لا إلى الشفاه والألسنة. وإن حج القلوب خير من حج الأقدام، ولبس التقوى ذلك خير من لباس الإحرام. فاعبدوا الله مخلصين له الدين، ولا تكونوا ممن يعبده على حر فذلك هو الضلال المبين. 
واذكروا أن الزمان ريح قلب والدنيا برق خلب. والحياة سحاب جهام، والحمام ليث حمام. فلا تغتروا برهرهة الآل ولا يذهلكم الحال، عن المآل. وإذا جردتم أنفسكم للاعتكاف وتجردتم للطواف. فقولوا: لبيك يا من يدعو إلى دار السلام، ولك الحمد الذي لا ينفد ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام. اللهم يا مجيب السؤال ورحيب النوال، ومنجح الآمال ومصلح الأعمال. تقبل جدنا وجهدنا، واغفر سهونا وعمدنا. ولا ترض العج والثج ممن حج منا أو دج. واطبع قلوبنا على محبتك المخلصة، وطاعتك المخلصة. واعصمنا بألطافك وقواك، ولا تكلنا إلى أمداد سواك. اللهم يا جزيل الثواب، وقابل كل أواب. ولا تقصنا عن وجهك الميمون، يوم لا ينفع مال ولا بنون. وآتنا كتبنا بأيماننا وكر أعمالنا بإيماننا. ولا تحاسبنا حساباً عسيراً، ولا تجعلنا ممن يضحكون قليلاً ويبكون كثيراً. اللهم يا سابغ الآلاء ونابغ الإيلاء. هب لنا قلوباً طاهرة، وعيوناً ساهرة. وأنفساً عفيفة وألسناً حصيفة. وأخلاقاً سليمة ونيات مستقيمة. ويسر لنا توبة صادقة، وندامة حاذقة. وسيرة هادية، وعيشة راضية. وعاقبة حميدة وخاتمة سعيدة. وأفض علينا نعمتك، ورحمتك. ولطفك، وعطفك. وهداك ونداك. واجعل حجنا مبروراً، وذنبنا مغفوراً. وأحصنا مع أصحاب اليمين، في فردوسك الأمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. قال: فلما فرغ من دعائه، انثنى إلى ورائه. فحال القوم دون مسربه، لعذوبة مشربه. وقالوا له: بورك فيك، ما أحلى نفثات فيك! فهيهات أن تبرح من بيننا، قبل بيننا. قال: إني إلى ما تريدون أقرب من حبل الوريد، وأجرى من خيل البريد. ثم انقاد إلى مربضه وعاد إلى معرضه. فتأشب القوم عليه كدوح البريص، وبذلوا ي صحبته جهد الحريص. وأقام يطرفهم بالملح المستعذبة، والنوادر المستغربة. ويجلو عليهم الخطب المنبهة والزواجر المنهنهه. ويقدمهم بالأدعية، وهم يجاوبونه كالمستفقهة.
حتى انقضت أيام الشعث وقضوا شعائر التفث. فشرقوا وغرب وتفرقوا تحت كل كوكب.











مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید