المقامة القدسية
قال سهيل بن عباد: لقيت أبا ليلى في المسجد الأقصى، بين جمهور لا يحصى. والناس قد تألبوا عليه كالأجربين، وأحاطوا به كالأخشبين. وهو يخاطبهم بالوعظ والإنذار، ويحذرهم عذاب النار وسوء عقبى الدار. حتى صارت مدامعهم تصوب، وكادت أكبادهم تذوب. فلما رآني تحز وهو قد استوفز. فانقضضت إليه كالأجدل، وسقطت عليه كالجندل. فحياني تحية الأحبة، ثم استأنف الخطبة، فقال: الحمد لله الذي جعل حرمه أمناً للعباد ومقاماً للعباد. وهو الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأضحك وأبكى، وأمات وأحيي. والذي جعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً وبنى فوقكم سبعاً شداداً. والذي مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لم يبغيان وهو كل يوم في شأن. لا إله إلا هو الفرد الصمد الذي لا يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد. سبحانه وريحانه ما أعظم قدرته وشأنه، وأوسع منته وإحسانه. أما بعد فإنني قد قمت فيكم مقام الفقيه الخاطب، وهي صفقة لم يشهدها حاطب. فإني طالما ارتكبت الأوزار، وتبطنت الأقذار. واجترحت المغارم، واستبحت المحارم. وانتهكت الأعراض فسودت منها كل بياض. وما زال ذلك دأبي مذ شببت، إلى أن دببت. فليس لي أن أعظ أحداً ولا أفوه بخطبه أبداً. وعلي أن أقصر درسي على وعظ نفسي. وها أنا قد اعتمدت الأوبة، واعتصمت بالتوبة. فادعو الله لي أن يأخذني بحلمه، ولا يحكمه. ويعاملني بفضله لا بعدله. ثم أخذ في الأجبج والضجيج، وجعل يراوح بين النحيب والنشيج. حتى أبكى من حضر، من البدو والحضر. فأخذ القوم في تسكين ارتعاشه، وتمكين انتعاشه. حتى خمدت لوعته وهمدت روعته. فحباه كل واحد بدينار، وقال: أدع ربك لي واستغفره بالأسحار. قال إني قد تجردت عن عرض الدنيا، إلى الغاية القصيا، فلا أقبل منه مثقال ذرة ما دمت أحيي. ثم نهض بي مكبراً، وولى مدبراً. فبات بليل أنقد يساهر الفرقد. وهو لا يفتر من ذكر الله، ولا يمل من الصلوة حتى إذا أخذت الدراري في الأفول، قام على مرقبة وأنشأ يقول:
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م