المنشورات

مقامة الندم

يا ابا القاسم إنكَ لَفي موقفٍ صعبٍ بينَ حَوبةٍ رِكبتها. وبينَ توبةٍ تبتَها. فمتى ياسرْتَ بنظرِكَ إلى جانبِ حوبتكَ وهوَ أوحشُ جانبْ. وأجدرُهُ بالمخاوفِ والمهايب جانبٌ قد سدَّهُ الغُبارُ المُضِبْ وأطبَقَ عليهِ الظلامُ المُرِبْ. لا يتراءَى فيهِ شبَحانِ وإن اقتربَتْ بينهُما المسافة. وإن لم تعتوِرْ أبصارَهُما آفةْ. رأيتَ الشرَّ يُهروِلُ إليكَ مُقعقِعاً بأقرابهِ. مخترِطاً منصَلَه من قرابهِ. يؤآمُر فيكَ نفسيَهْ ويداوِرُ فيكَ رأييهْ. أيقُدُّك أم يقُطك. وفي أيِّ الغَمرتَينِ يُغطك.
والوعيدُ يتلقّاكَ بوجهِ جهم. ويزحفُ تلقاءَكَ بجيشٍ دهْم. والعِقابُ يُحدُّ لكَ نابَهْ. ويُشمرُ عن مخلبهِ قنابهْ. وبناتُ الرَّجاء يبرُزْنَ إليكَ في جِداد. وأفواهُ الناسِ تكشرُ لكُ عنْ أنيابٍ حداد. ومتى يامَنْتَ ببصرِك إلى جانبِ توبِتك وهي آنسُ جهةٍ وآنقُها. وأوفقُها بالمؤمنِ وأرفقُها جهةٌ كأنَّ الفجرَ المستطيرَ تنفسَ في أعراضِها. وكأنَّ النهارَ المستنيرَ اقُتبسَ من بياضِها يبرَقُ البصرُ في سُطوعِ إياتها. وكادَ يهدي العُمَي وُضوحَ آياتها. وجدتَ الخيرَ مُقبلاً بوجهٍ متطلِّق بسّاماً عن مثلِ وميضٍ متألِّق يلازمُكَ لِزامَ الحميمِ المشفِق. ويلاثُمكَ لِثامَ الحبيبِ المتشوِّق والوعدُ ينفضُ على خدَّيكَ وردَ الاستبشار. ويُذيقُ قلبكَ بردَ الاستبصار. والثوابُ يمسحُ أركانكَ بجناح ويغسلِكَ عن كلِّ مأثمٍ وجُناح. والرَّجاءُ واليأسُ يتقارَعان فيخرُجُ سهمُ الرَّجاءُ بالفوزِ والفلَجْ. ويبقى اليأسُ مقروعاً داحضَ الحُجج. فخُذْ حذارَكَ أن يُزِلكَ الشيطانُ ويضلكَ. بأن يُلقي على إحدى الجهتينِ ظلّك. وتهَبَ لها دونَ الأخرى كُلكْ. فإنّك إن فعلْتَ ذلكَ ملَكَكَ القُنوطُ والفزَعْ. واستولى عليكَ الأمنُ والطمَع. وكِلاهُما لعَمْرُ اللهِ أكلٌ وبيل. ومنهلٌ ليسَ له إلى المساغِ سبيل. القانطُ الفزعُ جامدٌ لا يرتاحُ للعمل. والآمِنُ الطّمعُ متلكّئ متكىء على الأمل فإن حاولتَ أن لا تقعُدَ يائساً بائساً ولا آملاً آمناً فقطِّعْ بينَ الجهتينِ نظرَك. وشطِّر إليهما بصرَك. حتى تجعلَ نفسكَ مترجِّحةً بينَ الرجاِء والحِذار. مترنّحةً بينَ البشارةِ والإنذار. تُلمِّظُها طَوراً حلاوَةَ الطمعِ إرادةَ الرَّغبةِ والنشاط وطوْراً مَرارةَ الفزعِ خيفةَ الاسترسالِ والانبساط. امزُجِ اليأسَ والطّمع والبسِ الأمنَ والفزَع لا تذَرْ منْ كلا النّفيسينِ شيئاً ولا تدعْ مَنْ يكنْ يقتنيِها فقدِ استكملَ الوَرَع.












مصادر و المراجع :

١- مقامات الزمخشري

المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

الناشر: المطبعة العباسية، شارع كلوت بك - مصر

الطبعة: الأولى، 1312 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید