المنشورات

مقامة الشكر

يا أبا القاسم نِعَمُ اللهِ عليكَ لا تُحصَرُ ولا تُحصى. ومَن يقدِرُ على حصرِ الرَّملِ وإحصاء الحَصى. وإن أخذتَ في أصغرِها حَجماً وأخصرها. وأضيقها باعاً وأقصرِها بَرَدَ فَهمُك الوَقّادُ وخَصِر. ووقفَ لِسانُك الوَقاعُ وحصر على أنَّ وصفَ شيءٍ منها بالصِّغرِ كُنود. واستقلالهُ انحرافٌ عنِ الواجبِ وعُنود فكِّر في النفسِ الواحدِ وبلةِ اللهاةِ بالرِّيق. تعرِفِ الخطأ في صفتهِ بالقلةِ والضّيق. رَقاكَ عَزَّت قدرتهُ إلى صُلبٍ طاهر. وترائبِ أم لم تكنْ بعاهر ثمَّ حطكَ إلى رحمٍ نقيه. وأجنكَ في بطنِ أم تقية ثمَّ أطلعكَ حيواناً سوِيَّ الأطراف. وإنساناً سليمَ الجوارحِ والأعطاف. ذا سمعٍ وبصرٍ وفؤاد ذا نورٍ بصّاصٍ في سَواد وهو نورُ البصرِ في سوادِ ناظرَيك. ونورُ البصيرةِ في سوادِ أحدِ أصغرَيك وأنزلكَ في سعةِ المضطرَبِ بعدَ الأرهاق. وأعَدّ لكَ قبلَ ذاكَ أهناءَ الأنزال والأرزاق. وقَيضَ لكَ على حينِ ضَعفكَ وقرْبِ عهدِكَ. واستلقائكَ عاجزَ النهض على مَهدِك رَطبَ العِظامِ رِخْوَ المفاصلِ. كأنّكَ أزيْغبُ من حُمْرِ الحَواصِل. مُهيمنةً ترْأفُ بكَ وترحمُكَ. وترَفرِفُ عليكَ وترأمُك. وتظأرُكَ وتحضُنُك وتصونُكَ ممّا يؤذيكَ وتحَصِّنُكَ. تضعُكَ على لَبانها. وتُرْضِعكَ بلِبانها. وتؤنِسُكَ بالمُناغاةِ إذا استوحَشتَ وتصَمِّتُك بالتّعليلِ إذا أجهَشت. ولمّا طفِقَ يُرَشِّحُكَ لإصابةِ الطيِّباتِ التي يرْزُقُك. وأنشأ يُنشئكَ للتوصلِ إلى غرائبِ حِكمٍ يُسددُكَ لها ويوفقُك. جعلَ أسنانكَ في مغارزِها مُركبه. وصيرَها على مراتبِ الحكمةِ مُرتبة. ودبرَ في فيكَ للأصواتِ مَدارج وللحروف المبسوطةِ مخارج وأطلقَ لسانَكَ فتكلمت وعلمَكَ طرُقَ البيانِ فتعلمْت. ولقنكَ الشّهادتَين. وحفظكَ ما بين الدفتَين. 
وهَداكَ النجدَين. وألقى إليكَ الصِّفَتين فوصفَ لكَ ما تؤدِّي منهُما إلى النّجاة مسالكُه. وعرَّفَ لكَ ما لا تؤمَنُ بَوائقهُ ومهالكهُ. لئلاَّ تقعَ في أعقالِ الباطلِ ومجاهله. ولتنصَبَّ إلى شرائعِ الحقِّ ومناهلهِ. ثمَّ خوَّلكَ من جزالةِ الفضلِ ما حلقَ على هامِ أمانيك. ولم تطمَحْ إليهَ ظُنونُ عشيرَتكَ وأدانيك. ورفعَ لكَ في ذلكَ صيتاً صيّتا. وحُسنَ ذكرٍ يضمنُ لكَ الحياةَ ميِّتا ثمَّ أوسعكَ تقلباً في الجنابِ الأخضر. وافتراشاً للمِهادِ الأوثر. منَ العيشِ الرَّافغِ والبالِ الفارغ والمشربِ الرَّافهِ. والمركبِ الفاره والمنظر المرموق والمسكنِ الموموق والدَّارِ ذاتِ الزَّخارفِ والزَّفارِف. والحديقةِ ذاتِ الأكلِ والظلِّ الوارِف والقنيةِ المُغنيةِ والغنيةِ المُقنيه. إنما أولاكَ ما أولاكَ لتنظُرَ في وجوهِ نعمائهِ مفكِّرا. وتتوفرَ على محامدهِ متشكِّرا. فخالفتَ عمّا أرادكَ عليه. ونبذتَ ما أهاب بك إليه مخلداً إلى الشيطانِ ونزَغاته، مُقبلاً على الشّبابِ ونزَقاته. مائِلاً على الطّيشِ ونزَواته مُوغِلاً في التّصابي ونشواتهِ. تسُدُّ مسامعِكَ دونَ من ينتصَّح. وتوّدُّ لو رُميَ بعيٍّ فلا يتفصَّح يكادُ يزيدُك على الشرِّ إغراء. وعلى ارتكابهِ إضراء. ولقد فعلتَ ما فعلتَ ممّا هوَ الخبيرُ بخباياه. والمطلعُ على خفاياه. وهوَ يُرْخي على مَعايبِكَ سِتراً لا يشف جافياً ويُسبِلُ على مثالبِكَ ذَيلاً لا يصِفُ ضافياً. ويحامي عليكَ ممّا يُشوِّرُ بكَ ويفضحُك. ويُشوِّهُكَ عندَ النّاسِ ويُقبِّحُك. كلما ازدَدْتَ بلؤمِكَ غمصاً لأياديهِ وكفرانا. زادَكَ بكرمهِ الواسعِ طَوْلاً وإحسانا. هذا إلى أن بلغتَ الأربعينَ أو نيفْتَ عليها وهي الثنيةُ التي على الأريبِ العاقلِ إذا شارَفها أن يرعوِي. وعلى اللّبيبِ الفاضلِ إذا أنافَ عليها أن يَستوي. فكانَ أقربَ شيءٍ منكَ التِواؤك. وأبعدَ شيءٍ عنكَ استِواؤك. فلم يشأ لكرمهِ خِذلانَك. وأن يُخلِّيكَ وشانَك. بل شاءَ أن يَسوقَ نحوك النِّعمةَ بكمالها وتمامِها. وأن يحدوَها ويهديها إليكَ من خلفِها وأمامِها. فأذاقَك مِن بلائهِ مَسةً خفيفةً إلاَّ أنها طحنَت يا مسكينُ مَتنَكَ وصُلبَك. وكبسَتْ شدائدُها صدرَكَ وقلبك. وداستكَ وعرَكتكَ بالرِّجلِ واليَد ووطِئتكَ وطأ المقيد فكانت لعمري زَجرَةً أعقبتكَ من رُقادِ الغفلةِ يقظَه. وصبتْ في أذنيكَ أنفعَ نصيحةٍ وأنجعَ موعِظه. وقذفَتْ في قلبكَ روعةً خَفَقَتْ منها أحشاؤك. وكادَ
ينقطعُ أبهرُكَ وتنشَق مُرَيطاؤك. فلم يكن لكَ بُدٌ من أن تعوذَ بحقوَيِ الإنابةِ والأرعواء. وأن تلوذَ برُكنيِ الإلتجاءِ إليهِ والإنضواء. فأفرَغَ عليكَ ذُنوباً من رحمتهِ. وأعفاكَ منَ التّعريضِ لمُغافصَةِ نقمَته. ومَنَّ عليكَ بمسحةٍ لضُرِّك. وأحظاكَ بفُسحةٍ في أمرِك. وبصرَكَ ما حقيقةُ شأنكَ وفهمَك. وأخطرَ ببالكَ ما يصلحِكَ وألهمك. وأخذ إلى المراشدِ بيدِك. وجرَّكَ حاثّاً لكَ من مِقوَدِك. وتابعَ عليكَ ألطافَهُ الزَّائدةِ في إيقانك. الشادَّةِ لأعضادِ إيمانك. فبشكرِ أيةِ نعمةٍ تنهضُ أيها العبدُ العاجز. هيهاتَ قد حجزَتْ دونَ ذلكَ الحواجز. أبهرُكَ وتنشَق مُرَيطاؤك. فلم يكن لكَ بُدٌ من أن تعوذَ بحقوَيِ الإنابةِ والأرعواء. وأن تلوذَ برُكنيِ الإلتجاءِ إليهِ والإنضواء. فأفرَغَ عليكَ ذُنوباً من رحمتهِ. وأعفاكَ منَ التّعريضِ لمُغافصَةِ نقمَته. ومَنَّ عليكَ بمسحةٍ لضُرِّك. وأحظاكَ بفُسحةٍ في أمرِك. وبصرَكَ ما حقيقةُ شأنكَ وفهمَك. وأخطرَ ببالكَ ما يصلحِكَ وألهمك. وأخذ إلى المراشدِ بيدِك. وجرَّكَ حاثّاً لكَ من مِقوَدِك. وتابعَ عليكَ ألطافَهُ الزَّائدةِ في إيقانك. الشادَّةِ لأعضادِ إيمانك. فبشكرِ أيةِ نعمةٍ تنهضُ أيها العبدُ العاجز. هيهاتَ قد حجزَتْ دونَ ذلكَ الحواجز.













مصادر و المراجع :

١- مقامات الزمخشري

المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ)

الناشر: المطبعة العباسية، شارع كلوت بك - مصر

الطبعة: الأولى، 1312 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید