المنشورات
المَقَامَةُ الأَهْوَازِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قال: كُنْتُ بِالأَهْوازِ، في رُفْقَةِ مَتَى مَا تَرَقَّ العَيْنُ فِيهِمْ تَسَهَّلِ، لَيْسَ فِينَا إِلاَّ أَمْرَدُ بكْرُ الآمالِ، أَوْ مُخْتَطُّ حَسَنُ الإِقْبالِ، مَرْجُوُّ الايَّامِ وَاللَّيال، فَأَفَضْنَا فِي العِشْرَةِ كَيْفَ نَضَعُ قَوَاعِدَهَا، وَالأُخُوَّةِ كَيْفَ نُحْكِمُ مَعَاقِدَهَا، وَالسُّرورِ فِي أَيِّ وَقْتٍ نَتَقَاضَاهُ، والشُّرْبِ فِي أَيِّ وَقْتٍ نَتَعاطاهُ، وَالانْسِ كَيْفَ نَتَهَاداهُ، وَفَائِتِ الحَظِّ كَيْفَ نَتَلافَاهُ، وَالشَّرَابِ مِنْ أَيْنَ نُحَصِّلُهُ، وَالمَجْلِسِ كَيْفَ نُزَيُّنُهُ.
فَقَالَ أَحَدُنا: عَلَىَّ الْبَيْتُ والنُّزْلُ، وَقالَ آخَرُ: عَلَىَّ الشَّرابُ وَالنَّقْلُ، وَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلى المَسيرِ اسْتَقَبَلنَا رَجُلٌ فِي طِمْرَيْنِ فِي يُمْنَاهُ عُكَّازَةٌ، وَعَلى كَتِفَيْهِ جِنَاَزةٌ، فَتَطَيَّرْنَا لَمَّا رَأَيْنَا الجِنَازَةَ وَأَعْرَضْنَا عَنْهَا صَفْحاً، وَطَوَيْنَا دُوَنَها كَشْحاً، فَصَاحَ بِنَا صَيْحَةً كَادَ تْ الأَرْضُ لهَا تَنْفَطِرُ، وَالنُّجُومُ تَنْكَدِرُ، وَقَالَ: لَتَروُنَّهَا صُغْراً وَلَتَرْكَبُنَّهَا كَرْهاً وَقَسْراً، مَا لكُمْ تَطَّيَّرونَ مِنْ مَطِّيةٍ رَكِبَهَا أَسْلاَفُكُمْ، وسَيَرْكَبُهَا أَخْلاَفُكُمْ، وَتَتَقَذَّرُونَ سَرِيراً وَطِئَهُ آبَاؤُكُمْ،وَسَيَطؤُهُ أَبْنَاؤُكُمْ، أَمَا واللهِ لَتُحْمَلُنَّ عَلَى هذِهِ العِيدَانِ، إِلَى تِلْكُمُ الدِّيدَانِ، وَلَتُنْقَلُنَّ بِهَذِهِ الجِيَادِ، إِلَى تِلْكُمُ الوِهادِ، وَيْحَكُمْ تَطَيَّرُونَ، كأَنَّكُمْ مُخَيَّرونَ، وَتَتَكَرَّهونَ، كأَنَّكُمْ مُنَزَّهُونَ، هَلْ تَنَفَعُ هَذهِ الطِّيَرَُ، يِا فَجَرَةُ؟.
قَالَ عِيَسى بْنُ هِشَامٍ: فَلَقَدْ نقَضَ مَا كُنَّا عَقَدْنَاهُ، وأَبْطَلَ مَا كُنَّا أَرَدْنَاهُ، فَمِلنَا إِلَيهِ وَقُلنَا لَهُ: مَا أَحْوَجَنَا إِلى وَعْظِكَ، وأَعْشَقَنَا لِلَفْظِكَ، وَلَوْ شِئْتَ لَزِدْتَ قَالَ: إِنَّ وَرَاءَكُمْ مَوَارِدَ أَنْتمْ وَارِدُوهَا، وَقَدْ سِرْتُمْ إِلَيْهَا عِشْرينَ حِجَةً:
وإِنْ امْرأَ قَدْ سَارَ عِشْرِينَ حِجَةً ... إِلى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لِقَرِيبُ
وَمِنْ فَوِقِكُمْ مِنْ يَعْلَمُ أَسْرارَكُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَهَتَكَ أَسْتَارَكُمْ،يُعَامِلِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِحِلمٍ، وَيَقْضِي عَلَيِكُمْ فِي الآخِرَةِ بِعِلمٍ، فَلْيَكُنِ المَوتُ مِنْكُمْ على ذُكْرٍ، لِئَلا تَأَتْوا بِنُكْرٍ، فَإِنَّكُمْ إِذَا اسْتَشْعَرْتُمُوهُ لَمْ تَجْمَحُوا، وَمَتى ذَكَرْتُمُوهُ لَمْ تَمْرَحوا، وإِنْ نَسِيتُمُوهُ فَهْوَ ذَاكِرُكُمْ، وإِنْ نِمْتُمْ عَنْهُ فَهُوَ ثَائِركُمْ، وإِنْ كَرِهْتُمُوهُ فهُوَ زَائِرُكُمْ، قُلْنَا: فَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: أَطْوَلُ مِنْ أَنْ تُحَدَّ، وأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُعَدَّ، قُلْنَا: فَسَانِحُ الوَقْتِ، قَالَ: رَدُّ فَائِتِ العُمْرِ، وَدَفَعُ نَازِلِ الأَمْرِ، قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْنَا، وَلَكِنْ مَا شِئْتَ مِنْ متَاعِ الدُنْيَا وَزُخْرِفِهَا، قَالَ لا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وإِنمَا حَاجَتِي بَعْدَ هَذا أَنْ تَخِدُوا أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَعُوا.
مصادر و المراجع :
١- مقامات بديع الزمان
الهمذاني
المؤلف: أبو
الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بديع الزمان الهمذاني (المتوفى: 398هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: المكتبة
الأزهرية
عام النشر: 1342
هـ - 1923 م
18 مايو 2024
تعليقات (0)