المنشورات

المَقَامَة الأَسْوَدِيَّةُ

حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: كُنْتُ أُتَّهَمُ بِمَالٍ أَصَبْتُهُ، فَهِمْتُ عَلى وَجْهِي هَارِبَاً حتّىَّ أَتَيْتُ البَادِيَةَ فَآدَّتْنِي الهَيْمَةُ، إِلى ظِلِّ خَيْمَةٍ، فَصَادَفْتُ عِنْدَ أَطْنَابِهَا فَتىً، يَلْعَبُ بِالتُّرَابِ، مَعَ الأَتْرَابِ، وَيُنْشِدُ شِعْراً يَقْتَضِيهِ حَالهُ، وَلاَ يَقْتَضِيهِ ارْتِجَالهُ، وَأَبْعَدْتُ أَنْ يُلْحِمَ نَسِيجَهُ، فَقُلْتُ: يَا فَتَى العَرَبِ أَتَرْوِي هَذا الشِّعْرَ أَمْ تَعْزِمُهُ؟ فَقَالَ: بَلْ أَعْزِمُهُ، وَأَنْشَدَ يَقُولُ:
إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ صَغِيرَ السِّنِّ ... وَكَانَ فِي العَيْنِ نُبُوٌّ عَنِّي
فَإِنَّ شَيْطَانِي أَمِيرُ الجِنِّ ... يَذْهَبُ بِي في الشِّعْرِ كُلَّ فَنِّ
حَتَّى يَرُدَّ عَارِضَ التَّظَنِّي ... فَامْضِ عَلَى رِسْلِكِ وَاغْرُبْ عَنِّي
فَقُلْتُ: يَا فَتَى العَرَبِ أَدَّتْنِي إِلَيْكَ خِيفَةٌ فَهَلْ عِنْدَكَ أَمْنٌ أَوْ قِرىً؟ قَالَ: بَيْتَ الأَمْنِ نَزَلْتَ، وَأَرْضَ القِرَى حَلَلْتَ، وَقَامَ فَعَلِقَ بِكُمِّي، فَمَشَيْتُ مَعَهُ إِلى خَيْمَةٍ قَدْ أُسْبِلَ سِتْرُهَا، ثُمَّ نَادَى: يَا فَتَاةَ الحَيِّ، هَذا جَارٌ نَبَتّ بِهِ أَوْطَانُهُ، وَظَلَمَهُ سُلْطَانُهُ، وَحَدَاهُ إِلَيْنَا صِيتُ سَمِعَهُ، أَوْ ذِكْرٌ بَلَغَهُ، فَأَجِيرِيِهِ، فَقَالَتِ الفَتَاةُ: اسْكُنْ يَا حَضَرِيُّ.
أَيَا حَضَرِيُّ اسْكُنْ وَلا تَخْشَ خِيفَةً ... فَأَنْتَ بِبَيْتِ الأَسْوَدِ بْنِ قِنَانِ
أَعَزِّ ابْنِ أُنْثَي مِنْ مَعَدٍ وَيَعْرُبٍ ... وَأَوْفَاهُمُ عَهْداً بِكُلِّ مَكانِ
وَأَضْرَبَهُمْ بِالسَّيْفِ مِنْ دُونِ جَارِهِ ... وَأَطْعَنُهُمْ مِنْ دُونِهِ بِسِنَانِ
كَأَنَّ المَنَايَا وَالعَطَايا بِكَفِّهِ ... سَحَابان مَقْرُونَانِ مُؤْتَلِفَانِ
وَأَبْيَضَ وَضَّاحِ الجَبِينِ إِذَا انْتَمَى ... تَلاَقَي إِلَى عِيصٍ أَغَرَّ يَمَانِي
فَدُونَكَهُ بَيْتِ الجِوَارِ وَسَبْعَةٌ ... يَحُلّوْنَهُ شَفَّعْتَهُمْ بِثَمَانِ
فَأَخَذَ الفَتَى بِيَدِي إِلَى البَيْتِ الَّذِي أَوْمأَتْ إِلَيْهِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَبْعَةُ نَفَرٍ فِيهِ، فَمَا أَخَذَتْ عَيْني إِلاَّ أَبَا الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيَّ فِي جُمْلَتِهِمْ فَقُلْتُ لَهُ: وَيْحَكَ بِأَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ؟ فَقَالَ:
نَزَلْتُ بِالأَسْوَدِ فِي دَارِهِ ... أَخْتَارُ مِنْ طَيِّبِ أَثْمَارِهَا
فَقُلْتُ: إِنِّي رَجُلٌ خَائِفٌ ... هَامَتْ بِيَ الخِيفَةُ مِنْ ثَارِهَا
حِيلَةُ أَمْثَالِي عَلَى مِثْلِهِ ... فِي هَذِهِ الحَالِ وَأَطْوَارِهَا
حَتَّى كَسَانِي جَابِراً خَلَّتِي ... وَمَاحِياً بَيِّنَ آثارِهَا
فَخُذْ مِنَ الدَّهْرِ وَنَلْ مَا صَفَا ... مِنْ قَبْلِ أَنْ تًنْقَلَ عَنْ دَارهَا
إِيَّاكَ أَنْ تُبْقِيَ أُمْنِيَةً ... أَوْ تَكْسَعَ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَا
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُلْتُ: يَا سُبْحَانَ اللهِ! أَيَّ طَرِيقِ الكُدْيَةِ لَمْ تَسْلُكْهَا؟ ثُمَّ عِشْنَا زَمَاناً فِي ذَلِكَ الجَنَابِ حَتَّى أَمِنَّا، فَرَاحَ مُشَرِّقاً وَرُحْتُ مُغَرِّبَاً.












مصادر و المراجع :

١- مقامات بديع الزمان الهمذاني

المؤلف: أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بديع الزمان الهمذاني (المتوفى: 398هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: المكتبة الأزهرية

عام النشر: 1342 هـ - 1923 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید