المنشورات
المَقَامَةُ الأَرْمَنِيَّةَ
حدَثَّنَاَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: لَمَّا قَفَلْنَا مِنْ تِجَارَةِ إِرْمِيِنِّيَة أَهْدَتْنَا الفَلاَةُ إِلَى أَطْفَالِهَا، وَعَثَرْنَا بِهِمْ فِي أَذْيَالِهَا، وَأَنَاخُونَا بِأَرْضِ نَعَامَةٍ، حَتَّى اسْتَنْظَفُوا حَقَائِبَنا، وأَرَاحُوا رَكَائِبنَا، وَبقِينَا بَياضَ اليَوْمِ، وَقَدء نَظَمَنا القِدُّ أَحْزَاباً، وَرُبِطَتْ خُيُولُنَا اغْتِصَاباً.
حتَّى أَرْدَفَ اللَّيْلُ أَذْنَابَهُ، وَمَدَّ النَّجْمُ أَطْنَابَهُ، ثُمَّ انْتَحَوْا عَجُزَ الفَلاَةِ، وَأَخَذْنَا صَدْرَها، وَهَلُمَّ جَرَّا، حَتَّى طَلَعَ حُسْنُ الفَجْرِ مِنْ نِقَابِ الحِشْمَةِ،وانْتُضِىَ سَيْفُ الصَّبْحِ مِنْ قِرَابِ الظُّلْمَةِ، فَمَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ، إَلاَّ عَلَى الأَشْعَارِ وَالأَبْشَارِ، وَمَا زِلْنَا بِالأَهْوَالِ نَدْرَأُ حُجُبَهَا، وَبِالْفَلَوَاتِ نَقْطَعُ نَجَبَها، حَتَّى حَلَلْنا المَرَاغَةَ، وَكُلٌّ مِنَّا انْتَظَمَ إِلى رَفِيقٍ، وَأَخَذَ فِي طَرِيقٍ، وَانْضَمَّ إِلَىَّ شَابٌّ يَعْلُوهُ صَفَارٌ، وَتعْلوهُ أَطْمَارٌ، يُكْنَى أَبَا الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيَّ، وَسِرْنَا فِي طَلَبِ أَبي جَابرٍ فَوَجَدْنَاهُ يَطْلُعُ مِنْ ذَاتِ لَظيً، تُسْجَرُ بِالغَضَا، فَعَمَدَ الإِسْكَنْدَرِيُّ إِلى رَجُلٍ فَاسْتَمَاحَهُ كفَّ مِلحٍ، وَقَالَ لِلْخَبَّازِ: أَعِرْنِي رَأْسَ التَّنُّورِ، فَإِنَّي مَقْرُورٌ، وَلَمَّا فَرَعَ سَنَامَهُ جَعَلَ يُحَدِّثُ القَوْمَ بِحَالِهِ، وَيُخْبِرُهُمْ بِاخْتِلاَلَهِ، وَيَنْشُرُ المِلْحَ فشي التَّنُّورِ مِنْ تَحْتِ أَذْيَالهِ، يُوهِمُهُمْ أَنَّ أَذَىً بِثِيَابِهِ، فَقَالَ الخَبَّازُ: مَا لَكَ لا أَبَا لَكَ؟! اجْمَعْ أَذْيَالَكَ فَقَدْ أَفْسَدْتَ الخُبْزَ عَلَيْنَا، وَقَامَ إِلَى الرُّغْفَانِ فَرَمَاهَا، وَجَعَل الإِسْكَنْدَرِيُّ يَلْتَقِطُهَا، وَيَتَأَبَّطُهَا، فَأَعْجَبَتَني حِيَلتُهُ فِيمَا فَعَلَ، وَقاَل: اصْبِرْ عَلَيَّ حَتَّى أَحْتَالَ عَلَى الأَدْمِ، فَلاَ حِيلَةَ مَعَ العُدْمِ، وَصَارَ إِلى رَجُلٍ قَدْ صَفَّفَ أَوانيَ نَظِيفةً فيها أَلوانُ الأَلْبَانِ، فَسأَلَهُ عَنِ الأَثْمَانِ، وَاسْتَأْذَنَ في الذَّوْقِ، فَقَالَ: أفْعَلْ، فَأَدَارَ في الآنِيةِ إِصْبَعَهُ، كَأَنَّهُ يَطْلُبُ شَيْئَاً ضَيَّعَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ مَعِي ثَمَنُهُ، وَهَلْ لَكَ رَغْبَةٌ في الحِجَامَةِ؟ فَقالَ: قَبَّحَكَ اللهُ! أَنْتَ حَجَّامٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَعَمَدَ لأَعْرَاضِهِ يَسُبَّهَا، وإِلَى الآنِيَةِ يَصُبُّهَا، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: آثِرْنِي عَلَى الشَّيْطانِ، فَقالَ: خُذْهَا لاَ بُورِكَ لَكَ فِيها، فَأَخَذَهَا وَأَوَيْنَا إِلى خَلْوَةٍ، وَأَكَلْنَاهَا بِدَفْعَةٍ، وَسِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَرْيَةً اسْتَطَعَمْنا أَهْلَهَا، فَبَادَرَ مِنْ بَيْنِ الجَمَاعَةِ فَتىً إِلَى مَنْزِلِهِ، فَجاءَنَا بِصَفْحَةٍ قَدْ سَدَّ اللَّبَنُ أَنْفاسَها، حَتَّى بَلَغَ رَأْسَهَا، فَجَعَلْنا نَتَحَسَّاها، حَتَّى اسْتَوفَيْناها، وسَأَلْناهُمُ الخُبْزَ، فَأَبَوا إِلاَ بِالثَّمَنِ، فَقَالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: مَا لَكُمْ تَجُودُونَ بِاللَّبَنِ، وَتَمْنَعُونَ الخُبْزَ إِلاَّ بِالثَمَنِ؟ فَقَالَ الغُلاَمُ: كَانَ هَذَا اللَّبَنُ فِي غَضَارةٍ، قَدْ وَقَعَتْ فَيهَ فَارَةٌ، فَنَحْنُ نَتَصَدَّقُ بِهِ على السَّيَّارَةِ، فَقالَ الإِسْكَنْدَرِيُّ: إِنَّا للهِ! وَأَخَذَ الصَّحْفَةَ فَكَسَرَهَا، فَصَاحَ الغُلاَمُ: وَاحَرَبَاهُ، وَامَحْرُوبَاهُ، فَاقْشَعَرَّتْ مِنَّا الجِلْدَةُ، وَانْقَلَبَتْ عَلَيْنَا المَعِدَةُ، وَنَفَضْنَا مَا كُنَّا أَكَلْنَاهُ، وَقُلْتُ: هَذا جَزَاءُ مَا بِالأَمْسِ فَعَلْنَاهُ، وَأَنْشأَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ يَقُولُ:
يَا نَفْسُ لاَ تَتَغَثَّى ... فَالشَّهْمُ لاَ يَتَغَثَّا
مَنْ يَصْحَبِ الدَّهْرِ يَأْكلْ ... فِيهِ سَمِيناً وَغَثَّا
فَالْبَسْ لِدَهْرٍ جَدِيداً ... وَالْبَسْ لآخَرَ رَثَّا
مصادر و المراجع :
١- مقامات بديع الزمان
الهمذاني
المؤلف: أبو
الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بديع الزمان الهمذاني (المتوفى: 398هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: المكتبة
الأزهرية
عام النشر: 1342
هـ - 1923 م
18 مايو 2024
تعليقات (0)