المنشورات

المَقَامَةُ الوَصِيَّةَ

حَدَثَّنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
لَمَّا جَهَّزَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ وَلَدَهُ لِلْتِّجَارَةِ أِقْعَدَهُ يُوَصِّيهِ، فَقَالَ بَعْدَ مَا حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسْولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي وَإِنْ وَثِقْتُ بِمَتَانَةِ عَقْلِكَ، وَطَهَارَةُ أَصْلِكَ، فَإِنِّي شَفِيقٌ، وَالشَّفِيقُ سَيِّئُ الظَّنِّ، وَلَسْتُ آمَنُ عَلْيكَ النَّفْسَ وَسُلْطَانَهَا، وَالشَّهْوَةَ وَشَيْطَانَهَا، فَاسْتَعِنْ عَليْهِما نَهارَكَ باِلصَّوْمِ وَلَيْلَكَ بِالنَّوْمِ، إِنَّهُ لَبُوسُ ظِهَارَتُهُ الجُوعُ، وَبِطَانُتُهُ الهُجُوعُ، وَمَا لَبِسَهُمَا أَسَدُّ إِلاَّ لانَتْ ثَوْرَتُهُ، أَفَهِمْتَهُمَا يَابْنَ الخَبِيثَةِ؟ وَكَمَا أَخْشَى عَلَيْكَ ذَاكَ، فَلاَ آمَنُ عَلَيْكَ لِصَّيْنِ: أَحَدُهُمَا الكَرَمُ، وَاسْمُ الآخَرِ القَرَمُ، فإِياَّكَ وَإِيَّاهُمَا؛ إِنَّ الكَرَمَ أَسْرَعُ فِي المَالِ مِنَ السُّوسِ، وَإِنَّ القَرَمَ أَشْأَمُ مِنَ البَسُوسِ. 
وَدَعْنِي مِنْ قَوْلِهِمْ " إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ " إِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِّي عَنِ اللَّبَنِ، بَلَى إِنَّ اللهَ لَكَرِيمٌ، وَلَكِنَّ كَرَمَ اللهِ يَزِيدُنَا وَلا يَنْقُصُهُ، وَيَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّهُ، وَمَنْ كَانَتْ هذِهِ حَالُهُ، فَلْتَكْرُمُ خِصَالُهُ، فَأَمَّا كَرَم ٌلا يَزِيدُكَ حَتَّى يَنْقُصِني، وَلا يَرِيشُكَ حَتَّى يَبْرِيَنِي، فَخِذلاَنٌ لا أَقُولُ عَبْقَرِيُّ، وَلَكِنْ بُقَرِيُّ.
أَفَهِمْتَهُمَا يَا ابْنَ المَشْؤُومَةِ؟ إِنَّمَا التِّجَارَةُ، تُنْبِطُ المَاءَ مِنَ الحِجَارَةِ، وَبَيْنَ الأَكْلَةِ وَالأَكْلَةِ رِيحُ البَحْرِ، بَيْدَ أَنْ لا خَطَرَ، وَالصِّينُ غَيْرَ أَنْ لا سَفَرَ، أَفَتَتْرُكُهُ وَهْوَ مُعْرِضٌ ثٌمَّ تَطْلُبُهُ وَهْوَ مُعْوَزٌ؟ 
أَفَهِمْتَهَا لا أُمَّ لَكَ؟
إِنَّهُ المَالُ عَافَاكَ اللهُ فَلا تُنْفِقَنَّ إِلاَّ مِنْ الرِّبْحِ، وَعَلَيْكَ بِالخُبْزِ واَلمِلْحِ،وَلَكَ في الخَلِّ والبَصَلِ رُخْصَةٌ مَا لَمْ تُذِمَّهُمَا، وَلَمْ تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَاللَّحْمُ لَحْمُكَ وَمَا أَرَاكَ تَأْكُلُهُ، وَالحُلْوُ طَعَامُ مَنْ لا يُبَالي عَلى أَيِّ جَنْبَيْهِ يَقَعُ، وَالوَجَبَاتُ عَيْشُ الصَالِحِينَ، وَالأكْلُ على الجُوعِ وَاقِيَةَ الفَوْتِ، وَعَلى الشِبَعِ دَاعِيَةُ المَوْتِ، ثُمَّ كُنْ مَعَ النَّاسِ كَلاعِبِ الشِّطْرَنْجِ: خُذْ كُلَّ مَا مَعَهُمْ، وَاحْفَظْ كُلَّ مَا مَعَكَ.
يَا بُنَيَّ قَدْ أَسْمَعْتُ وَأَبْلَغْتُ، فَإِنْ قَبِلْتَ فَاللهُ حَسْبُكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فاَللهُ حَسِيبُكَ، وَصَلَّى اللهُ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.












مصادر و المراجع :

١- مقامات بديع الزمان الهمذاني

المؤلف: أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بديع الزمان الهمذاني (المتوفى: 398هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: المكتبة الأزهرية

عام النشر: 1342 هـ - 1923 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید