فكُنتُ بهِ أجْلو هُمومي وأجْتَلي . . . زمانيَ طلقَ الوجْهِ مُلتَمِعَ الضّيا
أرَى قُرْبَهُ قُرْبى ومَغْناهُ غُنْيَةً . . . ورؤيَتَهُ رِيّاً ومَحْياهُ لي حَيا ولَبِثْنا على ذلِكَ بُرْهَةً . يُنْشئ لي كلَّ يومٍ نُزهَةً . ويدْرَأُ عن قلبي شُبهَةً . إلى أنْ جدَحَتْ لهُ يَدُ الإمْلاقِ . كأس الفِراقِ . وأغْراهُ عدَمُ العُراقِ . بتَطْليقِ العِراقِ . ولفَظَتْهُ مَعاوِزُ الإرْفاقِ . إلى مَفاوِزِ الآفاقِ . ونظَمَهُ في سِلْكِ الرّفاقِ . خُفوقُ رايةِ الإخْفاقِ . فشحَذَ للرّحْلَةِ غِرارَ عزْمَتِهِ . وظَعَنَ يقْتادُ القلْبَ بأزِمّتِهِ .
فما راقَني مَنْ لاقَني بعْدَ بُعْدِهِ . . . ولا شاقَني مَنْ ساقني لوِصالِهِ
ولا لاحَ لي مُذْ ندّ نِدٌ لفَضْلِهِ . . . ولا ذو خِلالٍ حازَ مثلَ خِلالِهِ
واسْتَسَرّ عني حيناً . لا أعرِفُ لهُ عَريناً . ولا أجِدُ عنْهُ مُبيناً . فلمّا أُبْتُ منْ غُربَتي . إلى منْبِتِ شُعْبَتي . حضَرْتُ دارَ كُتُبِها التي هيَ مُنتَدى المتأدّبينَ . ومُلتَقَى القاطِنينَ منهُمْ والمُتغرّبينَ . فدخَلَ ذو لِحْيَةٍ كثّةٍ . وهيئَةٍ رثّةٍ . فسلّمَ على الجُلاّسِ . وجلَسَ في أُخرَياتِ الناسِ . ثمّ أخذَ يُبْدي ما في وِطابِهِ . ويُعْجِبُ الحاضِرينَ بفصْلِ خِطابِهِ . فقال لمَنْ يَليه : ما الكِتابُ الذي تنظُرُ فيهِ ؟ فقالَ : ديوانُ أبي عُبادةَ . المشْهودِ لهُ بالإجادَةِ . فقال : هلْ عثَرْتَ لهُ فيما لمحْتَهُ . على بَديعٍ استَملَحْتَهُ ؟ قال : نعمْ قولُه :
كأنّما تبْسِمُ عن لُؤلُؤٍ . . . منضّدٍ أو برَدٍ أو أقاحْ
فإنّهُ أبدَعَ في التّشبيهِ . المُودَعِ فيهِ . فقالَ لهُ : يا لَلعجَبِ . ولَضَيْعَةِ الأدبِ لقدِ استَسْمَنْتَ يا هَذا ذا ورَمٍ . ونَفَخْتَ في غيرِ ضرَمٍ أينَ أنتَ منَ البيْتِ النّدْرِ . الجامِعِ مُشَبّهاتِ الثّغْرِ ؟ وأنْشَد :
نفْسي الفِداءُ لثَغْرٍ راقَ مبسِمُهُ . . . وزانَهُ شنَبٌ ناهيكَ من شنَبِ
يفترُّ عن لُؤلُؤٍ رطْبٍ وعن برَدٍ . . . وعن أقاحٍ وعن طلْعٍ وعن حبَبِ
فاستَجادَهُ مَنْ حضَر واسْتَحْلاهُ . واستَعادَهُ منْهُ واسْتمْلاهُ . وسُئِلَ : لمنْ هذا البيتُ . وهلْ حيٌ قائِلُهُ أو ميْتٌ ؟ فقال : أيْمُ اللهِ لَلحَقُّ أحَقُّ أنْ يُتّبَعَ . ولَلصّدْقُ حَقيقٌ بأنْ يُستَمَعَ إنّهُ يا قَوْمُ . لنَجيّكُمْ مُذُ اليوْمَ . قال : فكأنّ الجَماعَةَ ارْتابَتْ بعزْوَتِه . وأبَتْ تصْديقَ دعْوَته . فتوجّسَ ما هجَسَ في أفْكارِهِمْ . وفطِنَ لِما بَطَنَ مِنِ استِنْكارِهِمْ . وحاذَرَ أنْ يفْرُطَ إليْهِ ذمّ . أو يَلْحَقَهُ وصْمٌ . فقرأ : إنّ بعْضَ الظنّ إثْمٌ . ثم قال : يا رُواةَ القَريضِ . وأُساةَ القوْلِ المَريضِ . إنّ خُلاصَةَ الجوهَرِ تظهَرُ بالسّبْكِ . ويدَ الحقّ تصْدَعُ رِداءَ الشّكّ . وقدْ قيلَ فيما غبَرَ منَ الزّمانِ : عندَ الامتِحانِ . يُكرَمُ الرّجُلُ أو يُهانُ . وها أنا قدْ عرّضْتُ خبيئَتي للاخْتِبارِ . وعرَضْتُ حَقيبَتي على الاعْتِبارِ . فابْتَدَر . أحدُ مَنْ حضَرَ . وقال : أعرِفُ بيْتاً لمْ يُنسَجْ على مِنْوالِهِ . ولا سمَحَتْ قَريحةٌ بمِثالِهِ . فإنْ آثَرْتَ اختِلابَ القُلوبِ . فانْظِمْ على هذا الأسْلوبِ . وأنْشَدَ :
فأمطَرَتْ لؤلؤاً من نرْجِسٍ وسقَتْ . . . ورْداً وعضّتْ على العُنّابِ بالبَرَدِ
فلم يكُنْ إلا كلَمْحِ البَصَرِ أو هُوَ أقرَبُ . حتى أنْشَدَ فأغْرَب :
سألتُها حينَ زارَتْ نَضْوَ بُرْقُعِها ال . . . قاني وأيداعَ سمْعي أطيَبَ الخبَرِ
فزَحزَحَتْ شفَقاً غشّى سَنا قمَرٍ . . . وساقَطَتْ لُؤلؤاً من خاتَمٍ عطِرِ
فحارَ الحاضِرونَ لبَداهَتِه . واعتَرَفوا بنَزاهَتِه . فلمّا آنَسَ استِئْناسَهُمْ بكَلامِهِ . وانصِبابَهُمْ إلى شِعْبِ إكْرامِهِ . أطْرَقَ كطَرْفَةِ العَينِ . ثمّ قال : ودونَكُمْ بيتَينِ آخرَينِ . وأنشدَ :
وأقبَلَتْ يومَجدّ البينُ في حُلَلٍ . . . سودٍ تعَضُّ بَنانَ النّادِم الحَصِرِ
فلاحَ ليْلٌ على صُبْحٍ أقلّهُما . . . غُصْنٌ وضرّسَتِ البِلّورَ بالدَّرَرِ فحينَئذٍ استَسْنى القوْمُ قيمَتَهُ . واستَغْزَروا ديمَتَهُ . وأجْمَلوا عِشْرَتَهُ . وجمّلوا قِشرَتَهُ . قال المُخْبِرُ بهَذِهِ الحِكايَةِ : فلمّا رأيتُ تلهُّبَ جذْوَتِهِ . وتألُّقَ جلْوَتِهِ . أمعَنْتُ النّظَرَ في توسُّمِهِ .
وسرّحْتُ الطّرْفَ في ميسِمِهِ . فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيّ . وقدْ أقْمَرَ ليلُه الدّجُوجيُّ . فهنّأتُ نفسي بمَورِدِهِ . وابتدَرْتُ اسْتِلام يدِهِ . وقلتُ لهُ : ما الذي أحالَ صفَتَكَ . حتى جهِلْتُ معرِفَتَكَ ؟ وأيّ شيء شيّبَ لحيَتَكَ . حتى أنْكَرْتُ حِليَتَكَ ؟ فأنشأ يقول :
وقْعُ الشّوائِبِ شيّبْ . . . والدّهرُ بالناسِ قُلَّبْ
إنْ دانَ يوماً لشَخْصٍ . . . ففي غدٍ يتغلّبْ
فلا تثِقْ بوَميضٍ . . . منْ برْقِهِ فهْوَ خُلّبْ
واصْبِرْ إذا هوَ أضْرى . . . بكَ الخُطوبَ وألّبْ
فما على التِّبْرِ عارٌ . . . في النّارِ حينَ يُقلَّبْ
ثمّ نهضَ مُفارِقاً موضِعَهُ . ومُستَصْحِباً القُلوبَ معَهُ .
مصادر و المراجع :
١- مقامات الحريري
المؤلف: القاسم
بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)
دار النشر: دار
الكتاب اللبناني - بيروت - 1981
الطبعة: الأولى
تعليقات (0)