كأنّهُ خِلالَةٌ . وكِلانا ما يَنالُ معَهُ شُبْعَةً . ولا ترْقأُ لهُ منَ الطّوى دمعَةٌ . وقد قُدتُهُ إليْكَ . وأحضَرْتُهُ لديْكَ . لتَعْجُمَ عودَ دعْواهُ . وتحْكُمَ بيْنَنا بِما أراكَ اللهُ . فأقْبَلَ القاضي عليْهِ وقال لهُ : قد وعَيْتُ قَصَصَ عِرْسِكَ . فبرْهِنِ الآنَ عن نفسِكَ . وإلا كشَفْتُ عن لَبْسِكَ . وأمرْتُ بحبْسِكَ . فأطْرَقَ إطْراقَ الأُفعُوانِ . ثمّ شمّرَ للحرْبِ العَوانِ . وقال :
اسْمَعْ حَديثي فإنّهُ عجَبُ . . . يُضحَكُ من شرحِهِ ويُنتحَبُ
أنا امرؤٌ ليسَ في خَصائِصِهِ . . . عيْبٌ ولا في فَخارِهِ رِيَبُ
سَروجُ داري التي ولِدْتُ بها . . . والأصلُ غسّانُ حينَ أنتسِبُ
وشُغليَ الدّرسُ والتبحُّرُ في ال . . . عِلمِ طِلابي وحبّذا الطّلَبُ
ورأسُ مالي سِحْرُ الكَلامِ الذي . . . منهُ يُصاغُ القَريضُ والخُطَبُ
أغوصُ في لُجّةِ البَيان فأخ . . . تارُ اللآلي منْها وأنْتَخِبُ
وأجْتَني اليانِعَ الجَنيَّ منَ ال . . . قوْلِ وغيري للعودِ يحْتَطِبُ
وآخُذُ اللفْظَ فِضّةً فإذا . . . ما صُغْتُهُ قيلَ إنّهُ ذهبُ
وكُنتُ منْ قبلُ أمْتَري نشَباً . . . بالأدَبِ المُقْتَنى وأحتَلِبُ
ويمْتَطي أخْمَصي لُرْمَتِهِ . . . مَراتِباً ليسَ فوقَها رُتَبُ
وطالَما زُفّتِ الصِّلاتُ إلى . . . ربْعي فلمْ أرْض كلَّ منْ يهَبُ
فاليوْمَ مَنْ يعْلَقُ الرّجاءُ بهِ . . . أكسَدُ شيءٍ في سوقِه الأدَبُ لا عِرْضُ أبْنائِهِ يُصانُ ولا . . . يُرْقَبُ فيهِمْ إلٌّ ولا نسَبُ
كأنّهُمْ في عِراصِهِمْ جِيَفٌ . . . يُبْعَدُ منْ نتْنِها ويُجْتَنَبُ
فحارَ لُبّي لِما مُنيتُ بهِ . . . منَ اللّيالي وصرْفُها عجَبُ
وضاقَ ذرْعي لضيقِ ذاتِ يَدي . . . وساوَرَتْني الهُمومُ والكُرَبُ
وقادَني دهْري المُليمُ إلى . . . سُلوكِ ما يستَشينُهُ الحسَبُ
فبِعْتُ حتى لم يبْقَ لي سبَدٌ . . . ولا بَتاتٌ إليْهِ أنْقَلِبُ
وادّنْتُ حتى أثقَلتُ سالِفَتي . . . بحَملِ دَينٍ من دونِه العطَبُ
ثمّ طوَيتُ الحَشا على سغَبٍ . . . خمْساً فلما أمَضّني السّغَبُ
لمْ أرَ إلا جِهازَها عرَضاً . . . أجولُ في بيعِه وأضْطَرِبُ
فجُلتُ فيهِ والنّفْسُ كارهَةٌ . . . والعينُ عَبرَى والقلبُ مُكتَئِبُ
وما تجاوزْتُ إذ عبثْتُ بهِ . . . حَدَّ التَراضي فيحدُثَ الغضَبُ
فإنْ يكُنْ غاظَها توهُّمُها . . . أنّ بَناني بالنّظْمِ تكتسِبُ
أو أنّني إذ عزَمتُ خِطبَتَها . . . زخْرَفتُ قوْلي لينجَحَ الأرَبُ
فوالّذي سارَتِ الرّفاقُ إلى . . . كعْبَتِهِ تستَحثُّها النُّجُبُ
ما المكْرُ بالمُحصَناتِ من خُلُقي . . . ولا شِعاري التّمويهُ والكذِبُ
ولا يَدي مُذْ نشأتُ نيطَ بها . . . إلا مَواضي اليَراعِ والكُتُبِ
بل فِكْرَتي تنظِمُ القَلائِدَ لا كفْ . . . في وشعري المنظوم لا السُّخُبُ
فهَذِهِ الحِرفَةُ المُشارُ إلى . . . ما كُنتُ أحوي بها وأجتَلِبُ
فأذَنْ لشَرْحي كما أذِنتَ لها . . . ولا تُراقِبْ واحكُمْ بما يجِبُ
قال : فلمّا أحكَم ما شادَهُ . وأكملَ إنشادَهُ . عطَفَ القاضي إلى الفَتاةِ . بعْدَ أن شُعِفَ بالأبياتِ . وقال : أمَا إنّهُ قدْ ثبَتَ عندَ جميع الحُكّامِ . ووُلاةِ الأحْكامِ . انقِراضُ جيلِ الكِرامِ . وميْلُ الأيامِ إلى اللّئامِ . وإني لإخالُ بعْلَكِ صَدوقاً في الكلامِ .
برِيّاً من المَلامِ . وها هو قدِ اعتَرَفَ لكِ بالقَرْضِ . وصرّحَ عنِ المَحْضِ . وبيّنَ مِصْداقَ النّظْمِ . وتبيّنَ أنّه مَعروقُ العظْمِ . وإعْناتُ المُعْذِرِ مَلأمَةٌ . وحبْسُ المُعسِرِ مألَمةٌ . وكِتْمانُ الفَقْرِ زَهادَةٌ . وانتِظارُ الفَرَجِ بالصّبرِ عِبادَةٌ . فارْجِعي إلى خِدرِك . واعذُري أبا عُذْرِكِ . ونَهْنِهي عن غَرْبِكِ . وسلّمي لقَضاءِ ربّكِ . ثمّ إنّهُ فرضَ لهُما في الصّدقاتِ حِصّةً . وناوَلَهُما منْ دَراهِمِهما قَبصَةً . وقال لهُما : تعلّلا بهذه العُلالَةِ . وتندّيا بهذِهِ البُلالَةِ . واصْبِرا على كيْدِ الزّمانِ وكدّهِ . فعَسى اللهُ أنْ يأتيَ بالفَتْحِ أو أمْرٍ من عِندِه . فنَهَضا وللشّيخِ فرْحَةُ المُطْلَقِ من الإسارِ . وهِزّةُ الموسِرِ بعْدَ الإعْسارِ . قال الرّاوي : وكنتُ عرفْتُ أنهُ أبو زيدٍ ساعةَ بزغَتْ شمسُهُ . ونزغَتْ عِرسُهُ . وكدْتُ أُفصِحُ عن افتِنانِه . وأثْمارِ أفْنانِهِ . ثمّ أشفَقْتُ من عُثورِ القاضي على بُهتانِه . وتزْويقِ لِسانِه . فلا يرَى عندَ عِرْفانِه . أن يُرشِّحَهُ لإحسانِه . فأحْجَمْتُ عنِ القوْلِ إحْجامَ المرْتابِ . وطوَيتُ ذكْرَهُ كطَيّ السّجِلّ للكِتابِ . إلا أني قُلتُ بعدَما فصَلَ . ووصلَ إلى ما وصَلَ : لوْ أنّ لَنا مَنْ ينطَلِقُ في أثَرِه . لأتانا بفَصّ خبَرِهِ . وبِما يُنْشَرُ من حِبَرِهِ . فأتبَعَه القاضي أحدَ أُمنائِهِ . وأمرَهُ بالتّجسّسِ عنْ أنبائِهِ . فما لبِثَ أنْ رجَعَ مُتَدَهْدِهاً . وقهْقَرَ مُقهْقِهاً . فقال له القاضي : مَهْيَمْ . يا أبا مرْيَمَ ؟ فقال : لقدْ عايَنْتُ عجَباً . وسمعْتُ ما أنْشأ لي طرَباً . فقال لهُ : ماذا رأيتَ . وما الذي وعَيْتَ ؟ قال : لمْ يزَلِ الشيخُ مذْ خرَجَ يُصفّقُ بيَدَيْهِ . ويخالِفُ بينَ رِجلَيْهِ . ويغرّدُ بمِلء شِدْقَيْهِ . ويقول :
كِدْتُ أصْلَى ببَلِيّهْ . . . منْ وَقاحٍ شَمّرِيّهْ وأزورُ السّجْنَ لوْلا . . . حاكِمُ الإسكندريّهْ
فضحِكَ القاضي حتى هوَتْ دنِّيّتُهُ . وذوَتْ سكينَتُهُ . فلمّا فاء إلى الوَقارِ . وعقّبَ الاستِغْراب بالاستِغْفارِ . قال : اللهُمّ بحُرمَةِ عِبادِكَ المقرّبينَ . حرّمْ حبْسي على المتأدّبينَ . ثمّ قال لذلِكَ الأمين : عليّ بهِ . فانطلقَ مُجِدّاً بطلَبِه . ثمّ عادَ بعدَ لأيِهِ . مخبّراً بنأيِهِ . فقال لهُ القاضي : أمَا إنّهُ لوْ حضَرَ . لكُفيَ الحذرَ . ثمّ لأوْلَيْتُهُ ما هو به أوْلى . ولأرَيتُهُ أنّ الآخِرَةَ خيرٌ لهُ من الأولى . قال الحارثُ بنُ همّام : فلمّا رأيتُ صَغْوَ القاضي إليهِ . وفَوْتَ ثمرَةِ التّنبيهِ علَيْهِ . غَشِيَتني نَدامَةُ الفرَزْدَقِ حينَ أبانَ النّوارَ . والكُسَعيِّ لمّا استَبانَ النّهارَ .
مصادر و المراجع :
١- مقامات الحريري
المؤلف: القاسم
بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)
دار النشر: دار
الكتاب اللبناني - بيروت - 1981
الطبعة: الأولى
تعليقات (0)