المقامة المغربيّة
حكى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال : شهِدْتُ صَلاةَ المغْرِبِ . في بعضِ مساجِدِ المغرِبِ . فلمّا أدّيتُها بفضْلِها . وشفَعْتُها بنَفْلِها . أخذَ طرْفي رُفقَةً قدِ انتَبَذوا ناحيةً . وامْتازوا صَفوةً صافيَةً . وهُمْ يتعاطَونَ كأسَ المُنافَثَةِ . ويقتَدِحونَ زِنادَ المُباحثَةِ . فرغِبْتُ في مُحادثتِهِمْ لكلِمَةٍ تُستَفادُ . أو أدبٍ يُستَزادُ . فسعَيْتُ إليهِمْ . سعْيَ المتطفّلِ عليْهِمْ . وقلتُ لهُمْ : أتقْبَلون نَزيلاً يطلُبُ جنى الأسْمارِ . لا جنّةَ الثّمارِ . ويبْغي مُلَحَ الحِوارِ . لا مَلْحاءَ الحُرارِ . فحَلّوا ليَ الحِبى . وقالوا : مرْحباً مرحَباً . فلمْ أجلِسْ إلا لمحَةَ بارِقٍ خاطِفٍ . أو نغبَةَ طائِرٍ خائِفٍ . حتى غَشيَنا جوابٌ . على عاتِقِه جِرابٌ . فحيّانا بالكلِمتَينِ . وحيّا المسجدَ بالتّسليمتَينِ . ثمّ قال : يا أولي الألبابِ . والفضلِ اللُبابِ . أما تعلَمونَ أنّ أنْفَسَ القُرُباتِ . تنْفيسُ الكُرُباتِ ؟ وأمْتَنَ أسبابِ النّجاةِ . مؤاساةُ ذوي الحاجاتِ ؟ وإني ومَنْ أحلّني ساحتَكُمْ . وأتاحَ ليَ استِماحتَكُمْ . لشَريدُ محلٍّ قاصٍ . وبَريدُ صِبيَةٍ خِماصٍ . فهلْ في الجَماعةِ . منْ يفثأُ حُمَيّا المَجاعَةِ ؟ فقالوا له : يا هذا إنّك حضرْتَ بعْدَ العِشاء . ولمْ يبْقَ إلا فَضلاتُ العَشاء . فإنْ كنتَ بها قَنوعاً . فما تجِدُ فينا مَنوعاً . فقال : إنّ أخا الشّدائِدِ . ليَقْنَعُ بلَفَظاتِ المَوائِدِ . ونُفاضاتِ المَزاوِدِ . فأمرَ كُلٌ منهُمْ عبْدَهُ . أنْ يزوّدَهُ ما عِندَهُ . فأعجَبَهُ الصُنْعُ وشكرَ عليْهِ . وجلَسَ يرْقُبُ ما يُحْمَلُ إليْهِ . وثُبْنا نحنُ إلى استِثارَةِ مُلَحِ الأدَبِ وعُيونِه . واستِنْباطِ مَعينِهِ من عُيونِهِ . إلى أنْ جُلْنا فيما لا يَستَحيلُ بالانعِكاسِ . كقولكَ ساكِبُ كاسٍ . فتَداعَينا إلى أنْ نستَنتِجَ لهُ الأفكارَ . ونفتَرِعَ منهُ الأبْكارَ . على أنْ ينظِمَ البادِئُ ثلاثَ جُماناتٍ في عِقدِهِ . ثمّ تتدرّج الزّياداتُ منْ بعدِهِ . فيرَبّعُ ذو ميمَنَتِهِ في نظْمِهِ . ويُسبِّعُ صاحِبُ ميسرَتِهِ على رغْمِهِ . قال الرّاوي : وكنّا قدِ انتظَمْنا عِدّةَ أصابِعِ الكفّ . وتألّفْنا أُلفَةَ أصْحابِ الكهْفِ . فابْتَدَرَ لعِظَمِ محْنَتي . صاحبُ ميمَنَتي . وقال : لُمْ أخاً ملّ . وقال مُيامِنُهُ : كبّرْ رَجاءَ أجْرِ ربّكَ . وقال الذي يليهِ : منْ يَرُبّ إذا برّ ينْمُ . وقال الآخرُ : سكّتْ كلَّ منْ نمّ لك تكِسْ . وأفضَتِ النّوبَةُ إليّ . وقد تعيّنَ نظْمُ السّمْطِ السُباعيّ عليّ . فلمْ يزَلْ فِكري يصوغُ ويكْسِرُ . ويُثْري ويُعسِرُ . وفي ضِمْنِ ذلِك أستَطْعِمُ . فلا أجدُ منْ يُطعِمُ . إلى أن ركَدَ النّسيمُ . وحصْحَصَ التّسليمُ . فقلتُ لأصْحابي : لو حضَرَ السَّروجيّ هذا المَقامَ . لشَفى الدّاءَ العُقامَ . فقالوا : لو نزَلَتْ هذهِ بإياسٍ . لأمْسَكَ على ياسٍ . وجعلْنا نُفيضُ في استِصْعابِها . واستِغْلاقِ بابِها . وذلِك الزّوْرُ المُعتَري . يلحَظُنا لحْظَ المُزدَري . ويؤلّفُ الدُرَرَ ونحنُ لا ندْري . فلمّا عثَرَ على افتِضاحِنا . ونُضوبِ ضحْضاحِنا . قال : يا قومُ إنّ منَ العَناء العظيمِ . استيلادَ العَقيمِ . والاستِشْفاءَ بالسّقيمِ . وفوْقَ كلّ ذي عِلمٍ عليمٌ . ثمّ أقبَل عليّ وقال : سأنوبُ منابَكَ . وأكفيكَ ما نابَكَ . فإنْ شِئْتَ أن تنثُرَ . ولا تعثُرَ . فقُلْ مُخاطِباً لمَنْ ذمّ البُخْلَ . وأكثَرَ العذْلَ : لُذْ بكلّ مؤمّلٍ إذا لمّ وملَك بذَلَ . وإنْ أحببْتَ أن تنظِمَ . فقُلْ للذي تُعظِمُ :
مصادر و المراجع :
١- مقامات الحريري
المؤلف: القاسم
بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)
دار النشر: دار
الكتاب اللبناني - بيروت - 1981
الطبعة: الأولى