المنشورات

المقامة الرّازيّة

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال : عُنيتُ مذْ أحْكَمتُ تَدبيري . وعرَفْتُ قَبيلي منْ دَبيري . بأنْ أُصْغيَ إلى العِظاتِ . وأُلْغيَ الكَلِمَ المُحْفِظاتِ . لأتحلّى بمَحاسِنِ الأخْلاقِ . وأتخلّى ممّا يَسِمُ بالإخْلاقِ . وما زِلتُ آخُذُ نفْسي بهذا الأدَبِ . وأُخْمِدُ بهِ جمْرَةَ الغضَبِ . حتى صارَ التطبُّعُ فيهِ طِباعاً . والتكلّفُ لهُ هوًى مُطاعاً . فلمّا حللْتُ بالرَّيّ . وقد حللْتُ حِبى الغَيّ . وعرَفْتُ الحَيَّ منَ اللّيّ . رأيتُ به ذاتَ بُكرةٍ . 
زُمرةً في إثْرِ زُمرَةٍ . وهمْ مُنتَشِرونَ انتِشارَ الجرادِ . ومُستَنّونَ استِنانَ الجِيادِ . ومتواصِفونَ واعِظاً يقصِدونَهُ . ويُحِلّون ابنَ سَمْعونَ دونَهُ . فلمْ يتكاءدْني لاستِماعِ المَواعِظِ . واختِبارِ الواعِظِ . أنْ أُقاسيَ اللاّغِطَ . وأحتمِلَ الضّاغِطَ . فأصْحبْتُ إصْحابَ المِطْواعَةِ . وانخرطْتُ في سِلْكِ الجَماعَةِ . حتى أفضيْنا إلى نادٍ حشَد النّبيهَ والمغْمورَ . وفي وسَطِ هالَتِهِ . ووسْطِ أهِلّتِهِ . شيخٌ قد تقوّس واقْعَنْسَسَ . وتقلْنَسَ وتطلّسَ . وهوَ يصدَعُ بوعْظٍ يشْفي الصّدورَ . ويُلينُ الصّخورَ . فسمِعْتُهُ يقولُ . وقدِ افتَتَنَتْ بهِ العُقولُ : إبنَ آدمَ ما أغْراكَ بما يغُرُّك . وأضْراكَ بما يضُرُّك وألْهجكَ بما يُطْغيكَ . وأبهجَكَ بمنْ يُطريكَ تُعْنى بما يُعَنّيكَ . وتهمِلُ ما يعْنيكَ . وتنزِعُ في قوْسِ تعدّيكَ .
وترْتَدي الحِرْصَ الذي يُرْديكَ لا بالكَفافِ تقْتَنِعُ . ولا منَ الحَرامِ تمْتَنِعُ . ولا للعِظاتِ تستَمِعُ . ولا بالوَعيدِ ترْتَدِعُ دأبُكَ أنْ تتقلّبَ معَ الأهْواء . وتخبِطَ خبْطَ العَشْواء وهمُّكَ أن تدأبَ في الاحتِراثِ . وتجْمَعَ التُراثَ للوُرّاثِ يُعجِبُك التّكاثُرُ بما لدَيكَ . ولا تذكُرُ ما بينَ يدَيْكَ . وتسعى أبداً لغارَيْكَ . ولا تُبالي ألَكَ أمْ علَيكَ أتظُنّ أنْ ستُترَكُ سُدًى . وأن لا تُحاسَبَ غداً ؟ أم تحْسَبُ أنّ الموتَ يقبَلُ الرُّشَى . أو يُميّزُ بين الأسدِ والرّشا ؟ كلاّ واللهِ لنْ يدفَعَ المَنونَ . مالٌ ولا بَنونَ ولا ينفَعُ أهلَ القُبورِ . سِوى العمَلِ المبْرورِ فطوبى لمَنْ سِمعَ ووَعى . وحقّقَ ما ادّعى ونهى النّفْسَ عنِ الهوَى . وعلِمَ أنّ الفائِزَ منِ ارْعَوى وأنْ ليسَ للإنسانِ إلا ما سَعى . وأنّ سعيَهُ سوفَ يُرى . ثمّ أنشدَ إنْشادَ وجِلٍ . بصوتٍ زجِلٍ :
لعَمرُكَ ما تُغني المَغاني ولا الغِنى . . . إذا سكنَ المُثري الثّرَى وثوَى بهِ
فجُدْ في مَراضي اللهِ بالمالِ راضِياً . . . بما تقْتَني منْ أجرِهِ وثوابِهِ
وبادِرْ بهِ صرْفَ الزّمانِ فإنّهُ . . . بمِخلَبِهِ الأشْغى يغولُ ونابِهِ
ولا تأمَنِ الدهْرَ الخؤونَ ومَكرَهُ . . . فكمْ خامِلٍ أخْنى عليهِ ونابِه ِ
وعاصِ هوى النّفسِ الذي ما أطاعَهُ . . . أخو ضِلّةٍ إلا هوى من عِقابِهِ
وحافِظْ على تقْوى الإلهِ وخوفِهِ . . . لتنْجوَ مما يُتّقى منْ عِقابِهِ
ولا تلهُ عن تَذكارِ ذنبِكَ وابكِهِ . . . بدمعٍ يُضاهي المُزْنَ حالَ مَصابِهِ
ومثّلْ لعينَيْكَ الحِمامَ ووقْعَهُ . . . وروْعَةَ مَلْقاهُ ومطْعَمَ صابِهِ
وإنّ قُصارى منزِلِ الحيّ حُفرَةٌ . . . سينْزِلُها مُستَنْزَلاً عن قِبابِهِ
فَواهاً لعبْدٍ ساءهُ سوءُ فعلِهِ . . . وأبدى التّلافي قبلَ إغلاقِ بابِهِ
قال : فظلّ القوْمُ بينَ عَبْرَةٍ يُذْرونَها . وتوْبَةٍ يُظهِرونَها . حتى كادَتِ الشمْسُ تَزولُ . والفَريضَةُ تَعولُ . فلمّا خشعَتِ الأصْواتُ . والتأمَ الإنْصاتُ . واستكَنّتِ العبَراتُ . والعِباراتُ . استُصْرَخَ مُسْتَصِرِخٌ باِلأَمِير الْحَاضِر وَجَعَلَ بجَأَرُ إليه من عامله الجائر والميرضاع إلى خصمه لاهٍ عن كشف ظلمه فلما يئس من روحه استنهض الواعظ لنصحه فنهض نهضة الشمير وأنشد معرضا بالأميرة :
عَجَباً لِرَاجٍ أنْ يَنَالَ وِلاَيَةً . . . حَتّى إذَا مَا نَالَ بُغْيَتَه بَغى
لتقلب طرفي فيه قال خير دليلك من أرشد ثم اقترب مني وأنشد :
أنا الذي تعرفه يا حارث . . . حدث ملوك فكه منافث
أطرب ما لا تطرب المثالث . . . طورا أخو جد وطورا عابث
ما غيّرَتْني بعْدَكَ الحَوادِثُ . . . ولا التَحى عودي خطْبٌ كارِثُ
ولا فَرى حدّيَ نابٌ فارِثٌ . . . بلْ مِخلَبي بكُلّ صيْدٍ ضابِثُ
وكلّ سرْحٍ فيهِ ذِئْبي عائِثُ . . . حتى كأني للأنامِ وارِثُ
سامُهُمُ وحامُهُمُ ويافِثُ
قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فقلتُ لهُ : تاللهِ إنّكَ لأبو زيدٍ . ولقدْ قُمتَ للهِ ولا عَمرَو بنَ عُبَيدٍ . فهشّ هَشاشَةَ الكريمِ إذا أُمّ . وقال : اسمَعْ يا ابنَ أُمّ . ثمّ أنشأ يقولُ :
عليْكَ بالصّدْقِ ولوْ أنّهُ . . . أحرَقَكَ الصّدقُ بنارِ الوَعيدْ
وابْغِ رِضَى اللهِ فأغْبى الوَرى . . . منْ أسخَطَ الموْلَى وأرضى العَبيد ْ
ثمّ إنّه ودّعَ أخدانَهُ . وانطلَقَ يسحَبُ أرْدانَهُ . فطلبْناهُ منْ بعْدُ بالرَّيّ . واستَنْشَرْنا خبرَهُ منْ مَدارِجِ الطّيّ . فما فينا مَنْ عرَفَ قرارَهُ . ولا دَرى أيُّ الجَرادِ عارَهُ .













مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید