المنشورات
المقامة الكَرَجيّة
حكَى الحارثُ بنُ همّامٍ قال : شتَوْتُ بالكَرَجِ لدَينٍ أقتَضيهِ . وأرَبٍ أقْضيهِ . فبلَوْتُ منْ شِتائِها الكالِحِ . وصِرّها النّافِحِ . ما عرّفَني جَهْدَ البَلاء . وعكَفَ بي على الاصْطِلاء . فلمْ أكُنْ أُزايلُ وِجاري . ولا مُستَوْقَدَ ناري . إلا لضَرورَةٍ أُدفَعُ إليْها . أو إقامةِ جماعةٍ أحافِظُ عليه . فاضطُررْتُ في يومٍ جَوُّهُ مُزْمَهِرٌّ . ودَجْنُهُ مكفَهِرٌّ . إلى أن برَزْتُ منْ كِناني . لمُهِمٍّ عَناني . فإذا شيخٌ عاري الجِلدَةِ . بادي الجُردَةِ . وقدِ اعتَمّ برَيْطَةٍ . واستَثْفَر بفُوَيطَةٍ . وحوالَيهِ جمْعٌ كَثيفُ الحواشي . وهو يُنشِدُ ولا يُحاشي :
يا قومِ لا يُنبِئكُمُ عن فَقري . . . أصْدَقُ من عُرْيي أوانَ القُرِّ
فاعتَبِروا بِما بَدا منْ ضُرّي . . . باطِنَ حالي وخَفِيَّ أمْري
وحاذِروا انقِلابَ سِلْمِ الدهْرِ . . . فإنني كُنتُ نَبيهَ القدْرِ
آوي إلى وَفْرٍ وحدٍّ يَفْري . . . تُفيدُ صُفري وتُبيدُ سُمْري
وتشتَكي كُومي غَداةَ أقْري . . . فجرّدَ الدّهرُ سُيوفَ الغدْرِ
وشَنّ غاراتِ الرّزايا الغُبْرِ . . . ولمْ يزَلْ يسْحَتُني ويَبْري
حتى عفَتْ داري وغاضَ دَرّي . . . وبارَ سِعْري في الوَرى وشِعْري
وصِرْتُ نِضْوَ فاقَةٍ وعُسْرِ . . . عاري المَطا مجرَّداً من قِشْري
كأنّني المِغزَلُ في التّعرّي . . . لا دِفْءَ لي في الصِّنّ والصِّنَّبْرِ غيرُ التّضحّي واصْطِلاءِ الجمْرِ . . . فهلْ خِضَمٌ ذو رِداءٍ غَمْرِ
يستُرُني بمُطرَفٍ أو طِمْرِ . . . طِلابَ وجهِ اللهِ لا لشُكْري
ثم قال : يا أرْبابَ الثّراء . الرّافِلينَ في الفِراء . مَنْ أوتيَ خيراً فليُنْفِقْ . ومنِ استَطاعَ أن يُرفِقْ فليُرْفِقْ . فإنّ الدُنْيا غَدورٌ . والدهرَ عَثورٌ . والمُكنَةَ زَورَةُ طيْفٍ . والفُرصَةُ مُزنَةُ صيفٍ . وإني واللهِ لَطالَما تلقّيتُ الشّتاءَ بكافاتِهِ . وأعدَدْتُ الأُهَبَ لهُ قبل مُوافاتِهِ . وها أنا اليومَ يا سادَتي . ساعِدي وِسادَتي . وجِلْدَتي بُرْدَتي . وحَفْنَتي جَفنَتي . فليَعتَبِرِ العاقِلُ بحالي . ولْيُبادِرْ صرْفَ اللّيالي . فإنّ السّعيدَ منِ التّعظَ بسِواهُ . واستَعدّ لمسْراهُ . فقيلَ لهُ : قد جلَوْتَ علَينا أدبَكَ . فاجْلُ لنا نسبَكَ . فقال : تبّاً لمُفتَخِرٍ . بعَظْمٍ نخِرٍ إنّما الفخْرُ بالتُّقى . والأدَبِ المُنتَقى . ثم أنشدَ :
لعَمرُكَ ما الإنسانُ إلا ابنُ يومِه . . . على ما تجلّى يومُهُ لا ابنُ أمسِهِ
وما الفخرُ بالعظْمِ الرّميمِ وإنّما . . . فَخارُ الذي يبغي الفخارَ بنفسِهِ
ثمّ إنّهُ جلسَ مُحقَوقِفاً . واجْرَنثَمَ مُقَفقِفاً . وقال : اللهُمّ يا مَنْ غمرَ بنوالِهِ . وأمرَ بسؤالِهِ . صلِّ على محمدٍ وآلهِ . وأعِنّي على البَرْدِ وأهْوالِهِ . وأتِحْ لي حُرّاً يؤثِرُ منْ خَصاصَةٍ . ويؤاسي ولوْ بقُصاصَةٍ . قال الراوي : فلمّا جلّى عنِ النّفْسِ العِصاميّةِ . والمُلَحِ الأصمعيّةِ . جعلَتْ ملامِحُ عيني تَعجُمُهُ . ومَرامي لحْظي تَرجُمُه . حتى استَبَنْتُ أنهُ أبو زيدٍ . وأنّ تعرّيَهُ أُحبولَةُ صيدٍ . ولمحَ هوَ أنّ عِرْفاني قد أدْركَهُ . ولمْ يأمَنْ أنْ يهتِكَهُ . فقال : أُقسِمُ بالسَّمَرِ والقمَرِ . والزُّهْرِ والزَّهَرِ . إنهُ لنْ يستُرَني إلا مَنْ طابَ خِيمُهُ . وأُشرِبَ ماءَ المُروءةِ أديمُهُ . فعقَلْتُ ما عَناهُ .
وإنْ لم يدْرِ القومُ معْناهُ . وساءني ما يُعانِيهِ منَ الرِّعدَةِ . واقشِعْرارِ الجِلْدَةِ . فعمَدْتُ لفَرْوةٍ هيَ بالنّهارِ رِياشي . وفي الليلِ فِراشي . فنضَوتُها عني . وقلتُ له : اقْبَلْها مني . فما كذّبَ أنِ افْتَراها . وعيني تَراها . ثم أنشدَ :
للهِ من ألبَسَني فَروةً . . . أضحتْ من الرِّعدَةِ لي جُنّهْ
ألبَسنِيها واقِياً مُهجَتي . . . وُقّيَ شرَّ الإنْسِ والجِنّهْ
سيَكتَسي اليومَ ثَنائي وفي . . . غدٍ سيُكسى سُندُسَ الجَنّهْ
قال : فلمّا فتَن قُلوبَ الجَماعَةِ . بافتِنانِهِ في البَراعَةِ . ألقَوْا عليْهِ منَ الفِراء المُغشّاةِ . والجِبابِ المُوشّاةِ . ما آدَهُ ثقَلُهُ . ولم يكَدْ يُقلّهُ . فانطلقَ مُستَبشِراً بالفَرجِ . مُستَسقِياً للكَرَجِ . وتبعْتُهُ إلى حيثُ ارتفَعَتِ التّقيّةُ . وبدَتِ السّماءُ نقيّةً . فقلتُ له : لَشَدّ ما قرّسَكَ البرْدُ . فلا تتعرّ منْ بعْدُ فقال : ويْكَ ليسَ منَ العدْلِ . سُرعةُ العذْلِ فلا تعْجَلْ بلَوْمٍ هوَ ظُلْمٌ . ولا تقْفُ ما ليْسَ لكَ بهِ عِلمٌ . فوَالّذي نوّرَ الشّيبَةَ . وطيّبَ تُربَةَ طَيْبَةَ . لو لمْ أتَعرّ لرُحْتُ بالخَيبَةِ . وصفَرِ العَيبَةِ . ثمّ نزَعَ إلى الفِرارِ . وتبرقَعَ بالاكْفِهْرارِ . وقال : أمَا تعْلَمُ أنّ شِنْشِنتيَ الانتِقالُ منْ صَيدٍ الى صيْدٍ . والانعِطافُ منْ عمْرٍو إلى زيدٍ ؟ وأراكَ قد عُقتَني وعقَقْتَني . وأفَتّني أضْعافَ ما أفدْتَني . فأعْفِني عافاكَ الله منْ لغوِكَ . واسْدُدْ دوني بابَ جِدّكَ ولهْوِكَ . فجبذتُهُ جبْذَ التِّلْعابَةِ . وجعْجَعْتُ به للدُعابَةِ . وقلتُ له : واللهِ لوْ لمْ أُوارِكَ . وأُغَطِّ على عَوارِكَ . لمَما وصلْتَ إلى صِلةٍ . ولا انقلَبْتَ أكْسى منْ بصَلَةٍ . فجازِني عنْ إحساني إليْكَ . وسَتري لكَ وعلَيْكَ . بإن تسمَحَ لي بردّ الفَروَةِ . أو تُعرّفَني كافاتِ الشّتوَةِ . فنظرَ إليّ نظَرَ المتعجّبِ . وازْمهَرّ ازمِهْرارَ المتغَضّبِ . ثمّ قال : أمّا رَدّ الفَروةِ فأبْعَدُ منْ ردّ أمسِ الدّابِرِ . والمَيْتِ الغابِرِ . وأما كافاتُ الشّتْوةِ فسُبحانَ مَنْ طبَع على ذِهنِكَ . وأوْهى وِعاءَ خَزْنِكَ . حتى أُنسيتَ ما أنشدْتُكَ بالدَّسْكَرةِ . لابنِ سُكّرَةَ : جاء الشتاءُ وعِندي منْ حوائِجِه . . . سبْعٌ إذا القطْرُ عن حاجاتِنا حبَسا
كِنٌّ وكِيسٌ وكانونٌ وكاسُ طِلاً . . . بعْدَ الكَبابِ وكفٌ ناعمٌ وكِسا
ثم قال : لَجوابٌ يَشفي . خيرٌ من جِلبابٍ يُدْفي . فاكْتَفِ بما وعَيْتَ وانْكَفي . ففارَقْتُهُ وقدْ ذهبَتْ فَروَتي لشِقْوَتي . وحصلْتُ على الرِّعدَةِ طولَ شَتْوَتي .
مصادر و المراجع :
١- مقامات الحريري
المؤلف: القاسم
بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)
دار النشر: دار
الكتاب اللبناني - بيروت - 1981
الطبعة: الأولى
18 مايو 2024
تعليقات (0)