المنشورات

المقامة الرّمْليّة

حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال : كنتُ في عُنفُوانِ الشّبابِ . ورَيْعانِ العيْشِ اللُّبابِ . أقْ لي الاكتِنانَ بالغابِ . وأهْوى الانْدِلاقَ منَ القِرابِ . لعِلْمي أنّ السّفَرَ ينفِجُ السُّفَرَ . ويُنتِجُ الظّفَرَ . ومُعاقَرَةَ الوطَنِ . تَعْقِرُ الفِطَنَ . وتحْقِرُ مَنْ قطَنَ . فأجَلْتُ قِداحَ الاستِشارَةِ . واقْتدَحْتُ زِنادَ الاستِخارَةِ . ثمّ استجَشْتُ جأشاً أثْبَتَ منَ الحِجارَةِ . وأصْعَدْتُ إلى ساحِلِ الشّامِ للتّجارَةِ . فلمّا خيّمتُ بالرّملَةِ . وألقَيتُ بها عَصا الرّحلَةِ . صادَفْتُ بها رِكاباً تُعَدّ للسُّرى . ورِحالاً تُشَدّ إلى أمّ القُرى . فعصَفَتْ بي ريحُ الغَرامِ . واهْتاجَ لي شَوْقٌ إلى البيتِ الحَرامِ . فزمَمْتُ ناقَتي . ونبذْتُ عُلَقي وعَلاقَتي .
الأرْدانِ . وإنْضاءُ الأبْدانِ . ومُفارقَةُ الوِلْدانِ . والتّنائي عنِ البُلْدانِ ؟ كلاّ واللهِ بل هوَ اجتِنابُ الخَطيّةِ . قبلَ اجْتِلابِ المطيّةِ . وإخلاصُ النّيّةِ . في قصْدِ تلكَ البَنِيّةِ . وإمْحاضُ الطّاعةِ . عندَ وُجْدانِ الاستِطاعَةِ . وإصْلاحُ المُعامَلاتِ . أمام إعْمالِ اليَعْمَلاتِ . فوالذي شرَعَ المَناسِكَ للنّاسِكِ . وأرشَدَ السّالِكَ في اللّيلِ الحالِكِ . ما يُنْقي الاغتِسالُ بالذَّنوبِ . منَ الانغِماسِ في الذُّنوبِ ولا تعدِلُ تعرِيَةُ الأجْسامِ . بتَعْبِيَةِ الأجْرام . ولا تُغْني لِبْسَةُ الإحْرامِ . عنِ المتلبِّسِ بالحَرامِ . ولا ينفَعُ الاضْطِباعُ بالإزارِ . معَ الاضْطِلاعِ بالأوْزارِ . ولا يُجْدي التّقرّبُ بالحَلْقِ . مع التّقلّبِ في ظُلْمِ الخلْقِ . ولا يَرْحَضُ التّنسّكُ في التّقصيرِ . درَنَ التّمسّكِ بالتّقصيرِ . ولا يَسعَدُ بعَرَفَةَ . غيرُ أهلِ المعرِفَةِ . ولا يزْكو بالخَيْفِ . منْ يرغَبُ في الحَيْفِ . ولا يشْهَدُ المَقامَ . إلا منِ استَقامَ . ولا يَحْظى بقَبولِ الحِجّةِ . منْ زاغَ عنِ المحَجّةِ . فرحِمَ اللهُ امْرأً صَفا . قبلَ مسْعاهُ إلى الصّفا . وورَدَ شَريعةَ الرّضى . قبلَ شُروعِهِ على الأضا .
ونزعَ عنْ تَلْبيسِهِ . قبلَ نزْعِ مَلبوسِهِ . وفاضَ بمعْروفِهِ . قبلَ الإفاضَةِ منْ تعريفِهِ . ثمّ رفعَ عَقيرَتَهُ بصوتٍ أسْمَعَ الصُمَّ . وكادَ يُزعزِعُ الجِبالَ الشُمَّ . وأنشدَ :
ما الحَجُّ سيرُكَ تأويباً وإدْلاجا . . . ولا اعْتِيامُكَ أجْمالاً وأحداجا
ألحَجُّ أن تقصِدَ البيتَ الحرامَ على . . . تجْريدِكَ الحَجّ لا تقْضي به حاجا
وتمْتَطي كاهِلَ الإنْصافِ متّخذاً . . . ردعَ الهَوى هادِياً والحَقَّ مِنْهاجا
وأنْ تُؤاسيَ ما أوتيتَ مَقدُرَةً . . . مَنْ مدّ كفّاً إلى جدْواكَ مُحْتاجا
فهَذهِ إنْ حوَتْها حِجّةٌ كمُلَتْ . . . وإنْ خَلا الحجُّ منها كان إخداجا
حسْبُ المُرائينَ غَبْناً أنهُمْ غرَسوا . . . وما جنَوا ولَقوا كدّاً وإزْعاجا
وأنّهُمْ حُرِموا أجْراً ومَحْمَدَةً . . . وألحَموا عِرضَهم من عابَ أوْ هاجى
أُخَيَّ فابْغِ بما تُبدِيهِ منْ قُرَبٍ . . . وجْهَ المُهَيمِنِ ولاّجاً وخرّاجا
فلَيسَ تخْفَى على الرّحمَنِ خافِيَةٌ . . . إنْ أخلَصَ العبدُ في الطاعاتِ أو داجى
وبادِرِ الموْتَ بالحُسْنى تُقدّمُها . . . فما يُنَهْنَهُ داعي الموتِ إن فاجا
واقْنَ التّواضُعَ خُلْقاً لا تُزايِلُهُ . . . عنكَ اللّيالي ولوْ ألْبَسنَكَ التّاجا
ولا تَشِمْ كلَّ خالٍ لاحَ بارِقُهُ . . . ولوْ تَراءى هَتونَ السّكْبِ ثجّاجا
ما كُلّ داعٍ بأهلٍ أن يُصاخَ لهُ . . . كم قد أصَمّ بنَعيٍ بعضُ منْ ناجى وما اللّبيبُ سوى مَنْ باتَ مُقتنعاً . . . ببُلْغَةٍ تُدرِجُ الأيّامَ إدْراجا
فكلُّ كُثْرٍ إلى قُلٍّ مَغبّتُهُ . . . وكلّ نازٍ إلى لينٍ وإنْ هاجا
قال الرّاوي : فلمّا ألْقَحَ عُقْمَ ا لأفْهامِ . بسِحْرِ الكَلامِ . استَروَحْتُ ريحَ أبي زيدٍ . ومادَ بيَ الارْتِياحُ إليْهِ أيَّ ميْدٍ . فمكثْتُ حتى استوْعَبَ نثَّ حِكمَتِهِ . وانحدَرَ منْ أكمَتِهِ . ثمّ دلَفْتُ إليْهِ لأتصفّحَ صفَحاتِ مُحيّاهُ . واستشِفّ جوهَرَ حِلاهُ . فإذا هوَ الضّالّةُ التي أنشُدُها . وناظِمُ القَلائِدِ اللاتي أنشدَها . فعانَقْتُهُ عِناقَ اللامِ للألِفِ . ونزّلتُهُ منزِلَةَ البُرْء عندَ الدّنِفِ . وسألتُهُ أن يُلازِمَني فأبى . أو يُزامِلَني فنَبا . وقال : آلَيتُ في حِجّتي هذِهِ أن لا أحْتَقِبَ ولا أعتَقِبَ . ولا أكتَسِبَ ولا أنتَسِبَ . ولا أرتَفِقَ . ولا أُرافِقَ . ولا أُوافِقَ منْ يُنافِقُ . ثمّ ذهبَ يهرْوِلُ . وغادرَني أوَلوِلُ . فلمْ أزَلْ أقْريهِ نظَري . وأوَدُّ لوْ يمشي على ناظِري . حتى توقّلَ أحدَ الأطْوادِ . ووقفَ للَجيجِ بالمِرْصادِ . فلمّا شاهدَ إيضاعَ الرُكْبانِ . في الكُثْبانِ . وقّعَ بالبَنانِ على البَنانِ . واندفَعَ يُنشِدُ :
ليسَ منْ زارَ راكِباً . . . مثلَ ساعٍ على القدَمْ
لا ولا خادِمٌ أطا . . . عَ كعاصٍ منَ الخدَمْ
كيفَ يا قوْمِ يسْتَوي . . . سعْيُ بانٍ ومَنْ هدمْ
سيُقيمُ المُفَرِّطو . . . نَ غداً مأتَمَ النّدَمْ
ويقولُ الذي تقرّ . . . بَ طوبَى لمنْ خدَمْ
ويْكِ يا نفْسُ قدّمي . . . صالحاً عندَ ذي القِدَمْ
وازْدَري زُخْرُفَ الحيا . . . ةِ فوُجْدانُهُ عدَمْ
واذْكُري مصْرعَ الحِما . . . مِ إذا خطْبُهُ صدَمْ
وانْدُبي فعْلَكِ القَبي . . . حَ وسُحّي لهُ بدَمْ
وادْبُغيهِ بتوْبَةٍ . . . قبلَ أن يحْلَمَ الأدَمْ
فعسى اللهُ أنْ يقي . . . كِ السّعيرَ الذي احتدَمْ
يومَ لا عثْرَةٌ تُقا . . . لُ ولا ينفعُ السّدَمْ
ثمّ إنّهُ أغمضَ عضْبَ لِسانِهِ . وانطلَقَ لِشانِهِ . فما زِلْتُ في كلّ موْرِدٍ نرِدُهُ . ومعَرَّسٍ نتوسّدُهُ . أتفقّدُهُ فأفْقِدُهُ . وأستَنْجِدُ بمَنْ يَنشُدُهُ فلا يجِدُهُ . حتى خِلتُ أنّ الجِنّ اختَطفَتْهُ . أوِ الأرضَ اقتطَفَتْهُ . فما كابَدْتُ في الغُربَة . كهذهِ الكُربَةِ . ولا مُنِيتُ في سَفْرَةٍ . بمِثلِها منْ زفْرَةٍ .














مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید