المنشورات

المقامة الماَلْطِيّة

أخبرَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال : أنَخْتُ بمَلْطِيّةَ مطيّةَ البَينِ . وحَقيبَتي ملأى منَ العينِ . فجعَلْتُ هِجّيرايَ . مُذْ ألقَيْتُ بها عصايَ . أن أتورّدَ موارِدَ المرَحِ . وأتصيّدَ شوارِدَ المُلَحِ . فلمْ يَفُتْني بها منظَرٌ ولا مسمَعٌ . ولا خَلا مني ملعَبٌ ولا مرتَعٌ . حتى إذا لمْ يبْقَ لي فيها مأرَبٌ . ولا في الثّواء بها مَرْغَبٌ . عمَدْتُ لإنْفاقِ الذّهبِ . في ابتِياعِ الأُهَبِ . فلمّا أكمَلْتُ الإعْدادَ . وتهيّأ الظّعْنُ منها أو كادَ . رأيتُ تِسعَةَ رهْطٍ قد سبأوا قهوَةً . وارتَبأوا ربْوَةً . ودماثَتُهُمْ قيْدُ الألحاظِ . وفُكاهَتُهُمْ حُلوَةُ الألْفاظِ . فنحَوْتُهُمْ طلَباً لمُنادَمتِهِمْ . لا لمُدامَتِهِمْ . وشَعَفاً بمُمازَجَتِهِمْ لا بزُجاجَتِهمْ . فلمّا انتظَمْتُ عاشِرَهُمْ . وأضحَيْتُ مُعاشِرَهمْ . ألفَيتُهُمْ أبناءَ عَلاّتٍ . وقَذائِفَ فلَواتٍ . إلا أنّ لُحْمَةَ الأدَبِ . قد ألّفَتْ شمْلَهُمْ أُلفَةَ النّسَبِ . وساوَتْ بينهُم في الرُّتَبِ . حتى لاحوا مثلَ كواكِبِ الجوْزاءِ . وبدَوْا كالجُملَةِ المُتناسِبَةِ الأجْزاءِ . فأبْهَجَني الاهتِداءُ إليْهِمْ . وأحمَدْتُ الطّالِعَ الذي أطلعَني عليْهِمْ . وطفِقْتُ أُفيضُ بقِدْحي معَ قِداحِهِمْ . وأسْتَشْفي برِياحِهِمْ لا بِراحِهِمْ . حتى أدّتْنا شُجونُ المُفاوضَةِ . إلى التّحاجي بالمُقايَضَةِ . كقوْلِكَ إذا عنَيْتَ بهِ الكَراماتِ . ما مثلُ النّوْمُ فاتَ . فأنْشأنا نجْلو السُهَى والقمرَ . ونجْني الشّوْكَ والثّمَرَ . وبيْنا نحنُ ننْشُرُ القَشيبَ والرّثَّ . وننْشُلُ السّمينَ والغَثَّ . وغَلَ عليْنا شيخٌ قد ذهَبَ حِبرُهُ وسِبْرُهُ . وبقِيَ خُبْرُهُ وسَبْرُهُ . فمثَلَ مُثولَ منْ يسمَعُ وينظُرُ . ويلتَقِطُ ما ننْثُرُ . إلى أن نُفِضَتِ الأكياسُ . وحصْحَصَ الياسُ . فلمّا رأى إجْبالَ القَرائِحِ . وإكْداءَ الماتِحِ والمائِحِ . جمَعَ أذيالَهُ . وولاّنا قَذالَهُ . وقال : ما كُلّ سوْداء تمْرَةٌ . ولا كلّ صهْباء خمرَةٌ . فاعْتَلَقْنا بهِ اعتِلاقَ الحِرْباء بالأعْوادِ . وضربْنا دونَ وِجْهَتِهِ بالأسْدادِ . وقلْنا لهُ : إن دَواء الشّقّ أن يُحاصَ . وإلا فالقِصاصَ القِصاصَ . فلا تطمَعْ في أن تجْرَحَ وتطْرَحَ . وتُنهِرَ الفَتْقَ وتسْرَحَ فلوَى عِنانَهُ راجِعاً . ثم جثَمَ بمَكانِهِ راصِعاً . وقال : أمّا إذا استَثَرْتُموني بالبَحْثِ . فلأحْكُمُ حُكمَ سُلَيْمانَ في الحرْثِ . اعْلَموا يا ذَوي الشّمائِلِ الأدبِيّةِ . والشَّمولِ الذّهبيّةِ . أنّ وضْعَ الأُحجِيّةِ . لامتِحانِ الألمَعيّةِ . واستِخْراجِ الخَبيّةِ الخفيّةِ . وشرْطُها أنْ تكونَ ذاتَ مماثلَةٍ حَقيقيّةٍ . وألْفاظٍ معْنَويّةٍ . ولَطيفَةٍ أدَبيّةٍ . فمتى نافَتْ هذا النّمَطَ . ضاهَتِ السّقَطَ . ولمْ تدْخُلِ السّفَطَ . ولم أرَكُمْ حافَظتُمْ على هذهِ الحُدودِ . ولا مِزْتُمْ بينَ المقبولِ والمرْدودِ . 
فقُلْنا لهُ : صدَقْتَ . وبالحقّ نطَقْتَ . فكِلْ لَنا منْ لُبابِكَ . وأفِضْ عليْنا منْ عُبابِكَ . فقال : أفْعَلُ لئلاّ يرْتابَ المُبطِلونَ . ويظنّوا بيَ الظّنونَ . ثمّ قابلَ ناظُورَةَ القومِ وقال :
يا مَنْ سَما بذَكاءٍ . . . في الفضلِ واري الزِّنادِ
ماذا يُماثِلُ قولي . . . جوعٌ أُمِدّ بزادِ
ثمّ ضحِكَ إلى الثّاني وأنشدَ :
يا ذا الذي فاقَ فضْلاً . . . ولمْ يُدَنّسْهُ شَينُ
ما مثلُ قوْلِ المُحاجي . . . ظهْرٌ أصابَتْهُ عينُ
ثمّ لحَظَ الثّالِثَ وأنشأ يقول :
يا مَنْ نتائِجُ فكرِهِ . . . مثلُ النّقودِ الجائِزَهْ
ما مثلُ قولِكَ للّذي . . . حاجَيْتَ صادَفَ جائِزَهْ
ثمّ أتلَعَ إلى الرّابِعِ وقال :
أيا مُستَنْبِطَ الغام . . . ضِ منْ لُغْزٍ وإضْمارِ
ألا اكْشِفْ ليَ ما مثلُ . . . تناوَلْ ألفَ دينارِ ثمّ رَمى الخامِسَ ببصرِه وقال :
يا أيّهَذا الألْمَع . . . يّ أخو الذّكاء المُنجَلي
ما مثلُ أهْمَلَ حِليَةً . . . بيِّنْ هُديتَ وعجِّلِ
ثمّ التفَت لفْتَ السّادِسِ وقال :
يا مَنْ تقصّرُ عن مَدا . . . هُ خُطى مُجارِيهِ وتضْعُفْ
ما مثلُ قولِكَ للّذي . . . أضْحى يحاجيكَ اكفُفِ اكفُفْ
ثمّ خلجَ السابعَ بحاجِبِه وقال :
يا منْ لهُ فِطنَةٌ تجلّتْ . . . ورُتبَةٌ في الذّكاء جلّتْ
بيّنْ فما زِلْتَ ذا بَيانٍ . . . ما مثلُ قولي الشَقيقُ أفلَتْ
ثم استنْصَتَ الثّامِنَ وأنشدَ :
يا مَنْ حدائِقُ فضلِهِ . . . مطلولَةُ الأزهارِ غضّهْ
ما مثلُ قولِكَ للمُحا . . . جي ذي الحِجى ما اختارَ فِضّهْ
ثمّ حدجَ التاسِعَ ببصرِهِ وقال :
يا منْ يُشارُ إليهِ في ال . . . قلبِ الذّكيّ وفي البَراعَهْ
أوضِحْ لنا ما مثلُ قوْ . . . لِكَ للمُحاجي دُسْ جماعَهْ
قال الراوي : فلما انتهى إليّ . هزّ مَنكِبَيّ . وقال :
يا منْ لهُ النُّكَتُ التي . . . يُشجي الخُصومَ بها وينكُتْ
أنتَ المُبينُ فقُلْ لنا . . . ما مثلُ قوْلي خاليَ اسكُتْ
ثم قال : قد أنْهلْتُكُمْ وأمهَلتُكُمْ . وإنْ شِئْتُمْ أنْ أعُلّكُمْ علّلتُكُمْ . قال : فألْجأنا لهَبُ الغُلَلِ . إلى استِسقاء العَلَلِ . فقال : لستُ كمَنْ يستأثِرُ على نَديمِهِ . ولا ممّنْ سمْنُهُ في أديمِه . ثمّ كرّ على الأوّلِ وقال :
يا منْ إذا أشكلَ المُعَمّى . . . جلَتْهُ أفكارهُ الدّقيقَهْ
إنْ قال يوماً لكَ المُحاجي . . . خذْ تلكَ ما مِثلُهُ حَقيقَهْ
ثم ثَنى جيدَهُ إلى الثّاني وقال :
يا منْ بَدا بيانُهُ . . . عنْ فضلِهِ مُبيِّنا
ماذا مثالُ قولِهِمْ . . . حِمارُ وحْشٍ زُيّنا
ثم أوحى إلى الثالثِ بلحْظِهِ وقال :
يا منْ غدا في فضلِهِ . . . وذكائِهِ كالأصْمَعي
ما مثلُ قولِكَ للذي . . . حاجاكَ أنْفِقْ تقمَعِ
ثمّ حملَقَ إلى الرّابعِ وأنشدَ :
يا منْ إذا ما عَويصٌ . . . دجا أنارَ ظلامَهْ
ماذا يُماثِلُ قوْلي . . . إسْتَنْشِ ريحَ مُدامَهْ
ثمّ أومضَ إلى الخامِسِ وقال :
يا مَنْ تنزّهَ فَهمُهُ . . . عنْ أن يرَوّي أو يَشُكّا
ما مثلُ قولِكَ للذي . . . أضْحى يُحاجي غطِّ هَلكى
ثمّ أقبلَ قِبَلَ السادِسِ وأنشدَ :
يا أخا الفِطنَةِ التي . . . بانَ فيها كمالُهُ
سارَ باللّيلِ مُدّةً . . . أيُّ شيءٍ مثالُهُ
ثم نَحا بصرَهُ إلى السابِعِ وقال :
يا منْ تحلّى بفَهْمٍ . . . أقامَ في الناسِ سوقَهْ
لكَ البَيانُ فبيّنْ . . . ما مثلُ أحْبِبْ فَروقَهْ
ثم قصدَ قصْدَ الثامنِ وأنشدَ :
يا منْ تبوّأ ذِروَةً . . . في المجدِ فاقتْ كلَّ ذرْوَهْ
ما مثلُ قولِكَ أعطِ إذْ . . . ريقاً يلوحُ بغيرِ عُروَهْ
ثم ابتسمَ إلى التّاسِعِ وقال :
يا مَنْ حوَى حُسنَ الدّرا . . . يَةِ والبَيانِ بغيرِ شكِّ
ما مثلُ قولِكَ للمُحا . . . جي ذي الذّكاء الثّورُ مِلكي
ثم قبَضَ بجُمْعِهِ على رُدْني وقال :
يا مَنْ سَما بثُقوبِ فِطنَتِهِ . . . في المُشكلاتِ ونورِ كوْكبهِ
ماذا مِثالُ صَفيرُ جَحفَلةٍ . . . بيّنْهُ تِبْياناً ينمّ بهِ
قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فلمّا أطرَبَنا بما سمِعْناهُ . وطالَبَنا مُكاشَفَةَ معْناهُ . قُلنا لهُ : لسْنا منْ خيلِ هذا المَيدانِ . ولا لَنا بحَلّ هذِه العُقَدِ يَدانِ . فإنْ أبَنْتَ . مننْتَ . وإنْ كتَمْتَ . غممْتَ . فظَلّ يُشاوِرُ نفسَيْهِ . ويُقلّبُ قِدْحَيْهِ . حتى هانَ بذْلُ الماعونِ عليْهِ . فأقبَلَ حينئذٍ على الجَماعةِ . وقال : يا أّلَ البَلاغَةِ والبَراعَةِ . سأعلّمُكُمْ ما لمْ تكونوا تعْلَمونَ . ولا ظننْتُمْ أنّكُمْ تُعلَّمونَ . فأوْكوا عليْهِ الأوعِيَةَ . وروِّضوا بهِ الأنديَةَ . ثمّ أخذَ في تفسيرٍ صقلَ به الأذْهانَ . واستفْرَغ معهُ الأرْذانَ . حتى آضَتِ الأفْهامُ أنْوَرَ منَ الشّمسِ . والأكْمامُ كأنْ لمْ تغْنَ بالأمسِ . ولمّا همّ بالمَفرّ . سُئِلَ عنِ المَقَرّ . فتنفّسَ كم تتنفّسُ الثَّكولُ . وأنشأ يقولُ :
كلُّ شِعْبٍ ليَ شِعْبُ . . . وبهِ رَبْعيَ رحْبُ
غيرَ أنّي بسَروجٍ . . . مُستَهامُ القلْبِ صَبّ
هيَ أرضي البِكرُ والج . . . وُّ الذي فيهِ المَهَبّ
والى روضَتِها الغنّا . . . ء دونَ الرّوضِ أصْبو
ما حَلا لي بعْدَها حُلْ . . . وٌ ولا اعْذَوْذَبَ عذْبُ
قال الراوي : فقلْتُ لأصحابي هذا أبو زيدٍ السَّروجيّ . الذي أدْنى مُلَحِهِ الأحاجيّ . وأخذْتُ أصِفُ لهُمْ حُسنَ توشيَتِهِ . وانقِيادَ الكَلامِ لمشيّتِهِ . ثمّ التفَتُّ فإذا بهِ قدْ طمَرَ . وناءَ بما قمَرَ . فعجِبْنا ممّا صنَعَ إذْ وقَعَ . ولمْ ندْرِ أيْنَ سكَعَ وصَقَعَ .
تفسير الأحاجي المودعة هذه المقامة
أما جوع أمدّ بزاد . فمثله طوامير . وأما ظَهر إصابته عَين ، فمثله مطاعين . وأما صادف جائزة ، فمثله الفاصلة . وأما تناول ألف دينار ، فمثله هادية . وأما أهمل حلية ، فمثله الغاشية . وأما اكفف اكفف ، فمثله مهمه . وأما الشقيق افلت ، فمثله أخطار . وأما ما اختار فضة . فمثله أبارقة ، لأن الرقة من أسماء الفضة وقد نطق بها النبي ، e ، فقال في الرقة ربع العشر . وأما دس جماعة ، فمثله طافية . وأما خالي اسكت ، فمثله خالصة ، لأنك إذا ناديت مضافاً إلى نفسك جاز لك حذف الياء وإثباتها ساكنة ومتحرّكة ، وقد حذف ههنا حرف النداء كما حذفه في أصل الأحجية ، وصه بمعنى اسكت . وأما خذ تلك ، فمثله هاتيك ، وأما حمار وحش زينا ، فمثله فرازين ، لأن الفرا حمار الوحش ، ومنه الحديث : كل الصيد في جوف الفرا . وأما قوله انفق تقمع ، فمثله منتقم ، لأن الأمر من مان يمون مُنْ . ومضارع وقمت تقِم . وأما استنش ريح مدامة ، فمثله رحراح ، لأن الأمر من استدعاء الرائحة رح . وأما غطِّ هلكى ، فمثله صُنبور ، لأن البور هم الهلكى ، وفي القرآن : وكنتم قوماً بوراً . وأما سار بالليل مدة ، فمثله سراحين . وأما احبب فروقة ، فمثله مقلاع ، لأن الأمر من ومق يمق مق ، واللاع الجبان ، يقال فلان هاع لاع إذا كان جباناً جزعاً . وأما اعطِ إبريقاً يلوح بغير عروة ، فمثله اسكوب ، لأن الأوس الإعطاء والأمر اس ، والكوب الإبريق بغير عروة ، وأما الثور ملكي ، فمثله اللآلي ، لأن اللأى على وزن القنا هو ثور الوحش . وأما صفير جحفلة ، فمثله مكاشفة ، لأن المكاء الصفير . قال الله تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ؛ والأصل في المكاء المد ولكنه قصره في هذه الأحجية كما حذف همزة الفراء في أحجيته . وكلا الأمرين من قصر الممدود وحذف همزة المهموز جائز .














مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید