المنشورات
المقامة البَكرِيّة
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال : هَفا بيَ البينُ المطَوِّحُ . والسيرُ المبرِّحُ . إلى أرضٍ يضِلّ بها الخِرّيتُ . وتفْرَقُ فيها المصاليتُ . فوجَدتُ ما يجِدُ الحائِرُ الوحيدُ . ورأيتُ ما كُنتُ منه أحيدُ . إلا أني شجّعْتُ قلْبيَ المَزْؤودَ . ونسأتُ نِضْوِيَ المجْهودَ . وسِرْتُ سيرَ الضّارِبِ بقِدْحَينِ . المُستَسلِمِ للحَينِ . ولمْ أزَلْ بينَ وخْدٍ وذَميلٍ . وإجازَةِ مِيلٍ بعْدَ ميلٍ . إلى أن كادَتِ الشمْسُ تجِبُ . والضّياءُ يحتجِبُ . فارْتَعْتُ لإظْلالِ الظّلامِ . واقتِحامِ جَيشِ حامٍ . ولمْ أدْرِ أأكْفِتُ الذّيلَ وأرتبِطُ . أم أعتَمِدُ اللّيلَ وأختَبِطُ ؟ وبيْنا أنا أقلّبُ العزْمَ . وأمتَخِضُ الحزْمَ . تَراءى لي شبَحُ جمَلٍ . مُستَذْرٍ بجبَلٍ . فترَجّيتُهُ قُعْدَةَ مُريحٍ . وقصدْتُهُ قصْدَ مُشيحٍ . فإذا الظّنّ كَهانَةٌ . والقُعدَةُ عَيرانَةٌ . والمُريحُ قدِ ازْدَمَلَ ببِجادِهِ . واكتَحَلَ برُقادِه . فجلَسْتُ عندَ راسِهِ . حتى هبّ من نُعاسِهِ . فلمّا ازْدَهَرَ سِراجاهُ . وأحَسّ بمَنْ فاجاهُ . نفَرَ كما ينفِرُ المُريبُ . وقال : أخوكَ أمِ الذّيبُ ؟ فقلتُ : بلْ خابِطُ ليْلٍ ضَلّ المسلَكَ . فأضِئْ أقْدَحْ لكَ . فقال : ليَسْرُ عنكَ همُّكَ . فرُبّ أخٍ لكَ لمْ تلِدْهُ أمُكَ . فانْسرَى عندَ ذلِكَ إشْفاقي . وسرَى الوسَنُ إلى آماقي . فقال : عندَ الصّباحِ يحْمَدُ القومُ السُّرى . فهلْ تَرى كما أرى ؟ فقلتُ : إني لكَ لأطْوَعُ منْ حِذائِكَ . وأوْفَقُ من غِذائِكَ .
فصَدَعَ بمحبّتي . وبخْبَخَ بصُحْبَتي . ثمّ احتَمَلْنا مُجِدَّينِ . وارتَحلْنا مُدلِجَيْنِ . ولمْ نزَلْ نُعاني السُّرى . ونُعاصي الكَرى . إلى أنْ بلغَ الليلُ غايتَهُ . ورفَعَ الفجْرُ رايتَهُ . فلمّا أسْفرَ الفاضِحُ . ولمْ يبْقَ إلا واضِحٌ . توسّمتُ رفيقَ رِحلَتي . وسَميرَ لَيلَتي . فإذا هوَ أبو زيدٍ مطلَبُ النّاشِدِ . ومَعلَمُ الرّاشِدِ . فتهادَيْنا تحيّةَ المُحبّينِ . إذا التَقَينا بعْدَ البيْنِ . ثمّ تباثَثْنا الأسْرارَ . وتناثَثْنا الأخْبارَ . وبَعيري ينحِطُ منَ الكِلالِ . وراحِلَتُهُ تزِفُّ زَفيفَ الرّالِ . فأعْجَبَني اشْتِدادُ أمرِها . وامتِدادُ صبرِها . فأخَذْتُ أستَشِفُّ جوهرَها . وأسألُهُ منْ أين تخيّرَها . فقال : إنّ لهذِهِ النّاقَةِ . خبَراً حُلْوَ المَذاقَةِ . مليحَ السّياقَةِ . فإنْ أحببْتَ استِماعَهُ فأنِخْ . وإنْ لمْ تشأ فلا تُصِخْ . فأنَخْتُ لقولِه نِضْوي . وأهدَفْتُ السّمْعَ لما يَروي . فقال : اعْلَمْ أني استَعرَضْتُها بحَضْرَمَوْتَ . وكابدْتُ في تحصيلِها الموْتَ . وم زِلتُ أجوبُ علَيها البُلدانَ . وأطِسُ بأخفافِها الظِّرّانَ . إلى أنْ وجدْتُها عُبْرَ أسفارٍ . وعُدَّةَ قرارٍ . لا يلحَقُها العَناءُ . ولا تُواهِقُها وجْناءُ . ولا تدْري ما الهِناءُ . فأرْصَدتُها للخَيرِ والشرّ . وأحلَلْتُها محَلَّ البَرّ السَّرّ . فاتّفَقَ أن ندّتْ مُذْ مُدةٍ . وما لي سِواها قُعدَةٌ . فاستشْعَرْتُ الأسَفَ . واستَشرفْتُ التّلَفَ . ونسيتُ كُلّ رُزْءٍ سلَفَ . ثمّ أخذْتُ في استِقْراء المَسالِكِ . وتفقُّدِ المسارِحِ والمَبارِكِ . وأنا لا أستَنْشي منها ريحاً . ولا أستَغْشي يأساً مُريحاً . وكلّما ادّكَرْتُ مضاءها في السيرِ . وانبِراءها لمُباراةِ الطّيرِ . لاعَني الادّكارُ . واستَهوَتْني الأفكارُ . فبَينَما أنا في حِواء بعضِ الأحْياءِ إذْ سمِعْتُ منْ شخْصٍ متبَعِّدٍ . وصوْتٍ متجرِّدٍ : منْ ضَلّتْ لهُ مطيّةٌ . حضرَميّةٌ وطِيّةٌ . جِلدُها قد وُسِمَ . وعَرُّها قد حُسِمَ . وزِمامُها قد ضُفِرَ . وظهرُها كأنْ قد كُسِرَ ثم جُبِرَ . تَزينُ الماشيَةَ . وتُعينُ النّاشيَةَ . وتقطَعُ المَسافَةَ النّائِيَةَ . وتظَلّ أبداً لكَ مُدانِيةً . لا يعتَوِرُها الوَنى . ولا يعترِضُها الوَجى . ولا تُحْوِجُ إلى العَصا . ولا تَعْصي في مَنْ عصى . قال أبو زيدٍ : فجذَبَني الصوتُ إلى الصّائِتِ . وبشّرَني بدرَكِ الفائِتِ . فلمّا أفْضَيْتُ إليْهِ . وسلّمْتُ علَيْهِ . قلتُ لهُ : سلّمِ المطيّةَ . وتسلّمِ العطيّةَ . فقال : وما مطِيّتُكَ . غُفِرَتْ خطِيّتُكَ ؟ قلت له : ناقَةٌ جُثّتُها كالهَضْبَةِ . وذِروَتُه كالقُبّةِ . وجلَبُها مِلْءُ العُلبَةِ . وكنتُ أُعطيتُ بها عِشرينَ . إذ حللْتُ يَبرينَ . فاستَزَدْتُ الذي أعطى . ودريْتُ أنهُ أخْطا . قال : فأعْرَضَ عني حينَ سمِعَ صِفَتي . وقال : لستَ بصاحِبِ لُقطَتي فأخَذْتُ بتَلابيبِهِ . وأصرَرْتُ على تكذيبِهِ . وهمَمْتُ بتمزيقِ جَلابيبِهِ . وهوَ يقول : يا هذا ما مطيّتي بطِلْبِكَ . فاكْفُفْ عني منْ غَربِكَ . وعدّ عنْ سبّكَ . وإلا فقاضِني إلى حَكَمِ هذا الحيّ . البَريء من الغَيّ . فإنْ أوجبَها لكَ فتسلّمْ . وإن زَواها عنْكَ فلا تتكلّمْ . فلمْ أرَ دَواءَ قِصّتي . ولا مَساغَ غُصّتي . إلا أنْ آتيَ الحكَمَ . ولوْ لكَمَ . فانْخَرَطْنا إلى شيخٍ رَكينِ النِّصْبَةِ . أنيقِ العِصْبَةِ . يؤنَسُ منهُ سُكونُ الطائِرِ . وأنْ ليسَ بالجائرِ . فاندَرأتُ أتظلّمُ وأتألّمُ . وصاحبي مُرِمٌّ لا يترَمْرَمُ . حتى إذا نثلْتُ كِنانَتي . وقضَيْتُ من القَصَصِ لُبانَتي . أبرَزَ نعْلاً رَزينَةَ الوزْنِ . مَحْذوّةً لمسلَكِ الحَزْنِ . وقال : هذهِ التي عرّفْتُ . وإياها وصَفْتُ . فإنْ كانتْ هي التي أُعطِيَ بها عِشرينَ . وها هوَ من المُبصِرينَ . فقدْ كذَبَ في دعْواهُ . وكبُرَ ما افتَراهُ . اللهُمّ إلا أنْ يَمُدّ قَذالَهُ . ويُبَيّنَ مِصداقَ ما قالَهُ . فقالَ الحكَمُ : اللهُمّ غَفْراً . وجعلَ يقلّبُ النّعْلَ بطْناً وظهْراً . ثمّ قال : أما هذِهِ النّعلُ فنَعْلي . وأما مطِيّتُكَ ففي رحْلي . فانهَضْ لتسَلُّمِ ناقتِك . وافعَلِ الخيرَ بحسَبِ طاقَتِكَ . فقُمْتُ وقلت : لستَ بصاحِبِ لُقطَتي فأخَذْتُ بتَلابيبِهِ . وأصرَرْتُ على تكذيبِهِ . وهمَمْتُ بتمزيقِ جَلابيبِهِ . وهوَ يقول : يا هذا ما مطيّتي بطِلْبِكَ . فاكْفُفْ عني منْ غَربِكَ . وعدّ عنْ سبّكَ . وإلا فقاضِني إلى حَكَمِ هذا الحيّ . البَريء من الغَيّ . فإنْ أوجبَها لكَ فتسلّمْ . وإن زَواها عنْكَ فلا تتكلّمْ . فلمْ أرَ دَواءَ قِصّتي . ولا مَساغَ غُصّتي . إلا أنْ آتيَ الحكَمَ . ولوْ لكَمَ . فانْخَرَطْنا إلى شيخٍ رَكينِ النِّصْبَةِ . أنيقِ العِصْبَةِ . يؤنَسُ منهُ سُكونُ الطائِرِ . وأنْ ليسَ بالجائرِ . فاندَرأتُ أتظلّمُ وأتألّمُ . وصاحبي مُرِمٌّ لا يترَمْرَمُ . حتى إذا نثلْتُ كِنانَتي . وقضَيْتُ من القَصَصِ لُبانَتي . أبرَزَ نعْلاً رَزينَةَ الوزْنِ . مَحْذوّةً لمسلَكِ الحَزْنِ . وقال : هذهِ التي عرّفْتُ . وإياها وصَفْتُ . فإنْ كانتْ هي التي أُعطِيَ بها عِشرينَ . وها هوَ من المُبصِرينَ . فقدْ كذَبَ في دعْواهُ . وكبُرَ ما افتَراهُ . اللهُمّ إلا أنْ يَمُدّ قَذالَهُ . ويُبَيّنَ مِصداقَ ما قالَهُ . فقالَ الحكَمُ : اللهُمّ غَفْراً . وجعلَ يقلّبُ النّعْلَ بطْناً وظهْراً . ثمّ قال : أما هذِهِ النّعلُ فنَعْلي . وأما مطِيّتُكَ ففي رحْلي . فانهَضْ لتسَلُّمِ ناقتِك . وافعَلِ الخيرَ بحسَبِ طاقَتِكَ . فقُمْتُ وقلت :
أُقسِمُ بالبيتِ العَتيقِ ذي الحُرَمْ . . . والطائِفينَ العاكِفينَ في الحَرَمْ
إنّك نِعْمَ منْ إليْهِ يُحتكَمْ . . . وخيرُ قاضٍ في الأعاريبِ حكَمْ
فاسلَمْ ودُمْ دوْمَ النّعامِ والنَّعَمْ
فأجابَ من غيرِ رويّةٍ . ولا عَقْدِ نيّةٍ . وقال :
جُزيتَ عن شُكرِكَ خيراً يا ابنَ عمْ . . . إذ لستُ أستَوجبُ شكراً يُلتَزَمْ
شرُّ الأنامِ منْ إذا استُقْضي ظلمْ . . . ثمّ مَنِ استُرْعي فلمْ يرْعَ الحُرَمْ
فذانِ والكَلْبُ سَواءٌ في الفِيَمْ ثمّ إنهُ نفّذَ بينَ يدَيّ . منْ سلّم النّاقَةَ إليّ . ولمْ يمْتَنّ عليّ . فرُحْتُ نَجيحَ الأرَبِ . أجُرّ ذيْلَ الطّرَبِ . وأقولُ : يا لَلْعَجَبِ قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فقلتُ لهُ تاللهِ لقدْ أطْرَفْتَ . وهرَفْتَ بما عرَفْتَ . فناشَدتُكَ اللهَ هلْ ألفَيْتَ أسْحَرَ منكَ بلاغَةً . وأحسَنَ للّفْظِ صِياغَةً ؟ فقال : اللهُمّ نعَمْ . فاستَمِعْ وانْعَمْ . كُنتُ عزَمْتُ . حين أتْهَمْتُ . على أن أتّخِذَ ظَعينَةً . لتكونَ لي مُعينَةً . فحينَ تعيّنَ الخِطْبُ المُلِبّ . وكادَ الأمرُ يستَتِبّ . أفْكَرْتُ فكْرَ المتحرِّزِ منَ الوهْمِ . المتأمِّلِ كيفَ مَسقِطُ السّهْمِ . وبِتُّ ليلَتي أُناجي القلْبَ المعذَّبَ . وأقلّبُ العزْمَ المُذَبذَبَ . إلى أن أجمَعْت على أن أُسْحِرَ . وأُشاوِرَ أوّلَ منْ أُبصِرُ . فلمّا قوّضَتِ الظُّلمَةُ أطْنابَها . وولّتِ الشُّهُبُ أذْنابَها . غدَوْتُ غُدُوَّ المتعرِّفِ . وابتكرْتُ ابتِكارَ المتعيِّفِ . فانْبَرى لي يافِعٌ . في وجْهِهِ شافِعٌ . فتيمّنْتُ بمنظَرِهِ البَهيجِ . واستَقْدَحْتُ رأيَهُ في التّرويجِ . فقال : أوَتبْغيها غَواناً . أم بِكْراً تُعانى ؟ فقلتُ : اختَرْ لي ما تَرى . فقدْ ألْقَيتُ إليكَ العُرى . فقال : إليّ التّبيينُ . وعليْكَ التّعيينُ . فاسمَعْ أنا أفْديكَ . بعْدَ دفْنِ أعاديكَ . أما البِكرُ فالدُرّةُ المخزونَةُ . والبَيضَةُ المَكنونَةُ . والباكورَةُ الجَنِيّةُ . والسُلافَةُ الهَنيّةُ . والروْضَةُ الأُنُفُ . والطّوْقُ الذي ثمُنَ وشرُفَ . لمْ يُدَنّسْها لامِسٌ . ولا تسَغْشاها لابِسٌ . ولا مارسَها عابِثٌ . ولا وكَسَها طامِثٌ . ولها الوجهُ الحَييّ . والطّرْفُ الخفيّ . واللّسانُ العَيِيّ . والقلْبُ النّقيّ . ثمّ هيَ الدُمْيَةُ المُلاعِبَةُ . واللّعْبَةُ المُداعِبَةُ . والغَزالَةُ المُغازِلَةُ . والمُلْحَةُ الكامِلَةُ . والوِشاحُ الطاهرُ القَشيبُ . والضّجيعُ الذي يُشِبُّ ولا يُشيبُ . وأما الثّيّبُ فالمَطيّةُ المذَلّلَةُ . واللُّهْنَةُ المعَجّلَةُ . والبِغْيَةُ المُسهَّلَةُ . والطّبّةُ المُعلِّلَةُ . والقَرينةُ المتحبِّبَةُ . والخَليلَةُ المتقرِّبَةُ . والصَّناعُ المدَبِّرَةُ . والفَطْنَةُ المختَبِرَةُ . ثمّ إنّها عُجالَةُ الرّاكِبِ . وأُنشوطَةُ الخاطِبِ . وقُعدَةُ العاجِزِ . ونُهْزَةُ المُبارِزِ . عريكَتُها لَيّنَةٌ . وعُقلَتُها هيّنَةٌ . ودِخلَتُها متَبيِّنَةٌ . وخِدمَتُها مزيِّنَةٌ . وأقسِمُ لقد صدَقْتُ في النّعتَينِ . وجلَوْتُ المَهاتَينِ . فبأيّتِهِما هامَ قلبُكَ ؟ قال أبو زيد : فرأيتُهُ جندَلَةً يتّقيها المُراجِمُ . وتُدمى منها المَحاجِمُ . إلا أني قلتُ له : كُنتُ سمعتُ أن البِكْرَ أشَدُّ حُبّاً . وأقلُّ خِبّاً . فقال : لعَمْري قد قيلَ هذا . ولكِنْ كمْ قوْلٍ آذى ويْحَكَ أمَا هيَ المُهرَةُ الأبيّةُ العِنانِ . والمَطيّةُ البَطيّةُ الإذْعانِ والزَّنْدَةُ المتعسِّرَةُ الاقْتِداحِ . والقَلعَةُ المُستَصْعَبَةُ الافتِتاحِ ثمّ إنّ مؤونَتَها كثيرةٌ . ومَعونتَها يَسيرةٌ . وعِشْرَتَها صَلِفَةٌ . ودالّتَها مُكلَّفَةٌ . ويدَها خرْقاء . وفِتْنَتها صَمّاء . وعَريكتَها خشْناء . وليلَتَها ليْلاء . وفي رياضَتِها عَناءٌ . وعلى خِبرَتِها غِشاءٌ وطالما أخزَتِ المُنازِلَ . وفرِكَتِ المُغازِلَ . وأحنَقَتِ الهازِلَ . وأضرَعَتِ الفَنيقَ البازِلَ . ثمّ إنّها التي تقول : أنا ألْبَسُ وأجلِسُ . فأطلُبُ منْ يُطلِقُ ويحبِسُ فقلتُ لهُ : فما ترى في الثّيّبِ . يا أبا الطّيّبِ ؟ فقال : ويْحَكَ أترغبُ في فُضالَةِ المآكِلِ . وثُمالَةِ المناهِلِ ؟ واللّباسِ المُستَبذَلِ . والوِعاءِ المُستَعْمَلِ ؟ والذّواقَةِ المُتطرِّفَةِ . والخَرّاجةِ المتصرِّفَةِ ؟ والوَقاحِ المتسلِّطَةِ . والمُحتَكِرَةِ المتسخِّطةِ ؟ ثمّ كلمَتُها كُنتُ وصِرْتُ . وطالَما بُغيَ عليّ فنُصِرْتُ . وشتّان بين اليومِ وأمْسِ . وأينَ القمرُ منَ الشّمسِ ؟ وإنْ كانتِ الحَنّانَةَ البَروكَ . والطّمّاحَةَ الهَلوكَ . فهيَ الغُلُّ القَمِلُ . والجُرْحُ الذي لا يندَمِلُ فقلتُ له : فهلْ ترى أن أترَهّبَ . وأسلُكَ هذا المذْهَبَ ؟ فانْتَهَرني انتِهارَ المؤدِّبِ . عندَ زَلّةِ المتأدِّبِ . ثمّ قال : ويلَكَ أتَقتَدي بالرُّهْبانِ . والحقُّ قدِ استَبانَ ؟ أُفٍّ لكَ . ولوَهْنِ رائِكَ . وتبّآً لك ولأولَئِكَ أتُراكَ ما سمعْتَ بأنْ لا رَهْبانيّةَ في الإسلام . أو ما حُدّثْتَ بمناكِحِ نبيّكَ عليْهِ أزْكى السّلامِ ؟ ثم أمَا تعلَمُ أنّ القَرينَةَ الصالحةَ تَرُبّ بيتَكَ . وتُلبّي صوتَكَ . وتغُضّ طرْفَكَ . وتطيّبُ عَرفكَ ؟ وبها ترَى قُرّةَ عينِكَ . وريْحانَةَ أنفِكَ . وفرْحةَ قلبِكَ . وخُلْدَ ذِكرِكَ . وتعِلّةَ يومِكَ وغدِكَ . فكيفَ رَغِبْتَ عنْ سُنّةِ المُرسَلينَ . ومُتعَةِ المتأهِّلينَ . وشِرْعَةِ المُحْصَنينَ . ومَجْلَبَةِ المالِ والبَنين ؟ واللهِ لقدْ ساءني فيكَ . ما سمِعْتُ من فيكَ . ثمّ أعْرَضَ إعْراضَ المُغضَبِ . ونَزا نَزَوانَ العُنظَبِ . فقلتُ لهُ : قاتَلَكَ اللهُ أتنطَلِقُ متبخْتِراً . وتدعُني متحيِّراً ؟ فقال : أظنّكَ تدّعي الحَيرَةَ . لتَستَغْنيَ عنِ المُهَيْرَةِ فقلتُ له : قبّحَ اللهُ ظنّكَ . ولا أشَبّ قرْنَكَ ثمّ رُحْتُ عنهُ مَراحَ الخَزْيانِ . وتُبتُ منْ مُشاوَرَةِ الصّبيانِ . قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فقلتُ لهُ أُقسِمُ بمنْ أنْبَتَ الأيْكَ . أنّ الجدَلَ منكَ وإلَيْكَ . فأغْرَبَ في الضّحِكِ وطرِبَ طَرْبَةَ المُنهَمِكِ . ثم قال : العَقِ العسَلَ . ولا تسَلْ فأخَذْتُ أُسهِبُ في مدْحِ الأدبِ . وأفضّلُ ربّّهُ على ذي النّشبِ . وهوَ ينظُرُ إليّ نظرَ المُستَجْهِلِ . ويُغْضي عني إغْضاءَ المتمهّلِ . فلمّا أفْرَطْتُ في العَصبيّةِ . للعُصبَةِ الأدبيّةِ . قال لي : صهْ . واسمعْ مني وافْقَهْ : ْ لا رَهْبانيّةَ في الإسلام . أو ما حُدّثْتَ بمناكِحِ نبيّكَ عليْهِ أزْكى السّلامِ ؟ ثم أمَا تعلَمُ أنّ القَرينَةَ الصالحةَ تَرُبّ بيتَكَ . وتُلبّي صوتَكَ . وتغُضّ طرْفَكَ . وتطيّبُ عَرفكَ ؟ وبها ترَى قُرّةَ عينِكَ . وريْحانَةَ أنفِكَ . وفرْحةَ قلبِكَ . وخُلْدَ ذِكرِكَ . وتعِلّةَ يومِكَ وغدِكَ . فكيفَ رَغِبْتَ عنْ سُنّةِ المُرسَلينَ . ومُتعَةِ المتأهِّلينَ . وشِرْعَةِ المُحْصَنينَ . ومَجْلَبَةِ المالِ والبَنين ؟ واللهِ لقدْ ساءني فيكَ . ما سمِعْتُ من فيكَ . ثمّ أعْرَضَ إعْراضَ المُغضَبِ . ونَزا نَزَوانَ العُنظَبِ . فقلتُ لهُ : قاتَلَكَ اللهُ أتنطَلِقُ متبخْتِراً . وتدعُني متحيِّراً ؟ فقال : أظنّكَ تدّعي الحَيرَةَ . لتَستَغْنيَ عنِ المُهَيْرَةِ فقلتُ له : قبّحَ اللهُ ظنّكَ . ولا أشَبّ قرْنَكَ ثمّ رُحْتُ عنهُ مَراحَ الخَزْيانِ . وتُبتُ منْ مُشاوَرَةِ الصّبيانِ . قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فقلتُ لهُ أُقسِمُ بمنْ أنْبَتَ الأيْكَ . أنّ الجدَلَ منكَ وإلَيْكَ . فأغْرَبَ في الضّحِكِ وطرِبَ طَرْبَةَ المُنهَمِكِ . ثم قال : العَقِ العسَلَ . ولا تسَلْ فأخَذْتُ أُسهِبُ في مدْحِ الأدبِ . وأفضّلُ ربّّهُ على ذي النّشبِ . وهوَ ينظُرُ إليّ نظرَ المُستَجْهِلِ . ويُغْضي عني إغْضاءَ المتمهّلِ . فلمّا أفْرَطْتُ في العَصبيّةِ . للعُصبَةِ الأدبيّةِ . قال لي : صهْ . واسمعْ مني وافْقَهْ :
يقولونَ إنّ جَمالَ الفتى . . . وزينَتَهُ أدَبٌ راسِخُ
وما إنْ يَزينُ سوى المُكثِرينَ . . . ومنْ طوْدُ سودَدِهِ شامِخُ
فأما الفَقيرُ فخيْرٌ لهُ . . . منَ الأدَبِ القُرْصُ والكامِخُ
وأيّ جَمالٍ لهُ أنْ يُقال . . . أديبٌ يعلِّمُ أو ناسِخُ ثمّ قال : سيتّضِحُ لكَ صِدْقُ لهجَتي . واستِنارَةُ حُجّتي . وسِرْنا لا نألو جُهْداً . ولا نستَفيقُ جَهْداً . حتى أدّانا السيرُ . إلى قريَةٍ عزَبَ عنها الخيرُ . فدخلْناها للارْتِيادِ . وكِلانا منْفِضٌ منَ الزّادِ . فما إنْ بلَغْنا المَحَطّ . والمُناخَ المخْتَطّ . أو لَقيَنا غُلامٌ لمْ يبلُغِ الحِنْثَ . وعلى عاتِقِه ضِغْثٌ . فحيّاهُ أبو زيدٍ تحيّةَ المُسلمِ . وسألَهُ وَقفَةَ المُفهِمِ . فقال : وعمّ تسألُ وفّقكَ اللهُ ؟ قال : أيُباعُ هاهُنا الرُّطَبُ . بالخُطَبِ ؟ قال : لا واللهِ قال : ولا البلَحُ . بالمُلَحِ ؟ قال : كلا واللهِ . قال : ولا الثّمرُ . بالسّمَرِ ؟ قال : هيهاتَ واللهِ قال : ولا العَصائِدُ . بالقصائدِ ؟ قال : اسْكُتْ عافاكَ اللهُ قال : ولا الثّرائِدُ . بالفَرائدِ ؟ قال : أينَ يُذهَبُ بكَ أرشَدَكَ اللهُ ؟ قال : ولا الدّقيقُ . بالمعْنى الدّقيقِ ؟ قال : عدّ عنْ هذا أصْلَحَكَ اللهُ واستَحْلى أبو زيدٍ تَراجُعَ السّؤالِ والجَوابِ . والتّكايُلَ منْ هذا الجِرابِ . ولمَحَ الغُلامُ أنّ الشّوطَ بَطينٌ . والشيخَ سُوَيطينٌ . فقال له : حسبُكَ يا شيخُ قد عرَفْتُ فنّكَ . واستبَنْتُ أنّكَ . فخُذِ الجوابَ صُبرَةً . واكْتَفِ بهِ خِبرَةً : أما بهذا المكانِ فلا يُشتَرى الشِّعرُ بشَعيرَةٍ . ولا النّثرُ بنُثارَةٍ . ولا القَصَصُ بقُصاصَةٍ . ولا الرّسالَةُ بغُسالَةٍ . ولا حِكَمُ لُقْمانَ بلُقمَةٍ . ولا أخْبارُ المَلاحِمِ بلَحْمَةٍ . وأما جيلُ هذا الزّمانِ فما منهُمْ مَنْ يَميحُ . إذا صيغَ لهُ المديحُ . ولا مَنْ يُجيزُ . إذا أُنشِدَ لهُ الأراجيزُ . ولا منْ يُغيثُ . إذا أطرَبَهُ الحديثُ . ولا منْ يَميرُ . ولوْ أنّهُ أميرٌ . وعندَهُمْ أنّ مثَلَ الأديبِ . كالرّبْعِ الجَديبِ . إنْ لم تجُدِ الرّبْعَ ديمَةٌ . لمْ تكُنْ لهُ قيمةٌ . ولا دانَتْهُ بَهيمةٌ . وكذا الأدَبُ . إنْ لم يعْضُدْهُ نشَبٌ . فدَرْسُهُ نصَبٌ . وخزْنُهُ حصَبٌ . ثمّ انسَدَرَ يعْدو . وولّى يحْدو . فقال لي أبو زيدٍ : أعَلِمْتَ أنّ الأدَبَ قد بارَ . وولّتْ أنصارُهُ الأدْبارَ ؟ فبُؤتُ لهُ بحُسْنِ البَصيرَةِ . وسلّمْتُ بحُكْمِ الضّرورةِ . فقال : دعْنا الآنَ منَ المِصاعِ . وخُضْ في حديثِ القِصاعِ . واعْلَمْ أنّ الأسْجاعَ . لا تُشبِعُ منْ جاعَ . فما التّدبيرُ في ما يُمسِكُ الرّمَقَ . ويُطفِئ الحرَقَ ؟ فقلتُ : الأمرُ إليْكَ . والزّمامُ بيديْكَ . فقال : أرى أنْ ترْهَنَ سيفَكَ . لتُشبِعَ جوفَكَ وضيفَكَ . فناوِلْنيهِ وأقِمْ . لأنقَلِبَ إليكَ بما تلْتَقِمُ . فأحسنْتُ به الظّنّ . وقلّدتُهُ السيفَ والرّهْنَ . فما لَبِثَ أنْ ركِبَ الناقَةَ . ورفضَ الصّدقَ والصّداقَةَ . فمكثْتُ مليّاً أترَقّبُهُ . ثمّ نهضْتُ أتعقّبُهُ . فكُنتُ كمَنْ ضيّعَ اللّبَنَ في الصّيفِ . ولم ألْقَهُ ولا السّيفَ .
مصادر و المراجع :
١- مقامات الحريري
المؤلف: القاسم
بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)
دار النشر: دار
الكتاب اللبناني - بيروت - 1981
الطبعة: الأولى
19 مايو 2024
تعليقات (0)