المنشورات

المقامة الحَراميّة

روى الحارثُ بنُ همّامٍ عنْ أبي زيدٍ السَّروجيّ قال : ما زِلْتُ مُذ رحَلْتُ عنْسي . وارتَحَلْتُ عنْ عِرْسي وغَرْسي . أحِنّ إلى عِيانِ البَصرَةِ . حَنينَ المظْلومِ إلى النُصرَةِ . لِما أجمَعَ عليْهِ أرْبابُ الدّرايَةِ . وأصْحابُ الرّوايَةِ . منْ خصائِصِ معالمِها وعُلَمائِها . ومآثِرِ مشاهِدِها وشُهَدائِها . وأسْألُ اللهَ أن يوطِئَني ثَراها . لأفوزَ بمرْآها . وأنْ يُمطيَني قَراها . لأقْتَري قُراها . فلمّا أحَلّنيها الحظُّ . وسرَحَ لي فيها اللّحْظُ . رأيتُ بها ما يمْلأ العَينَ قُرّةً . ويُسْلي عنِ الأوطانِ كلّ غَريبٍ . فغلَسْتُ في بعض الأيامِ . حينَ نصَلَ خِضابُ الظّلامِ . وهتَفَ أبو المُنذِرِ بالنُّوّامِ . لأخْطوَ في خِطَطِها . وأقْضيَ الوطَرَ منْ توسُّطِها . فأدّاني الاخْتِراقُ في مَسالِكِها . والانصِلاتُ في سِككِها . إلى محلّةٍ موسومَةٍ بالاحْتِرامِ . منسوبَةٍ إلى بني حَرامٍ . ذاتِ مَساجِدَ مشهودَةٍ . وحِياضٍ موْرودَةٍ . ومَبانٍ وثيقَةٍ . ومغانٍ أنيقَةٍ . وخصائِصَ أثيرَةٍ . ومَزايا كثيرةٍ :
بها ما شِئْتَ منْ دِينٍ ودُنْيا . . . وجيرانٍ تنافَوْا في المعاني
فمَشغوفٌ بآياتِ المثاني . . . ومفْتونٌ برَنّاتِ المثاني
ومُضْطَلِعٌ بتلْخيصِ المعاني . . . ومُطّلِعٌ إلى تخْليصِ عانِ
وكمْ منْ قارِئٍ فيها وقارٍ . . . أضَرّا بالجُفونِ وبالجِفانِ
وكمْ منْ مَعْلَمٍ للعِلْمِ فيها . . . ونادٍ للنّدى حُلْوِ المَجاني
ومَغْنًى لا تزالُ تغَنُّ فيهِ . . . أغاريدُ الغَواني والأغاني
فصِلْ إن شِئتَ فيها مَنْ يُصَلّي . . . وإمّا شِئْتَ فادنُ منَ الدِّنانِ
ودونَكَ صُحبَةَ الأكياسِ فيها . . . أوِ الكاساتِ منطَلِقَ العِنانِ قال : فبَينَما أنا أنفُضُ طُرُقَها . وأستَشِفُّ رونَقَها . إذْ لمحْتُ عندَ دُلوكِ بَراحِ . وإظْلالِ الرّواحِ . مسجِداً مُشتَهِراً بطَرائِفِهِ . مزدَهِراً بطوائِفِه . وقد أجْرى أهلُهُ ذِكْرَ حُروفِ البدَلِ . وجرَوْا في حلْبَةِ الجدَلِ . فعُجْتُ نحوَهُمْ . لأستَمطِرَ نوّهُمْ .
لا لأقتَبِسَ نحوَهُمْ . فلمْ يكُ إلا كقَبْسَةِ العَجْلانِ . حتى ارتفَعَتِ الأصْواتُ بالأذانِ . ثمّ رَدِفَ التّأذينَ بُروزُ الإمامِ . فأُغْمِدَتْ ظُبى الكلامِ . وحُلّتِ الحِبى للقِيامِ . وشُغِلْنا بالقُنوتِ . عنِ استِمْدادِ القوتِ . وبالسّجودِ . عنِ استِنْزال الجودِ . ولمّا قُضيَ الفَرْضُ . وكادَ الجمْعُ ينفَضّ . انْبَرى منَ الجماعَةِ . كهْلٌ حُلْوُ البَراعةِ . لهُ منَ السّمتِ الحسَنِ . ذَلاقَةُ اللّسَنِ . وفَصاحَةُ الحسَنِ . وقال : يا جيرَتي . الذينَ اصْطفَيتُهُمْ على أغصانِ شجرَتي . وجعلْتُ خِطتَهُمْ دارَ هِجرَتي . واتّخَذْتُهُمْ كَرِشي وعَيبَتي . وأعددْتُهُمْ لمَحْضَري وغيْبَتي . أما تعْلَمونَ أنّ لَبوسَ الصّدقِ أبْهى الملابِسِ الفاخِرةٍ . وأنّ فُضوحَ الدُنيا أهوَنُ منْ فُضوحِ الآخِرَةِ ؟ وأنّ الدّينَ إمْحاضُ النّصيحَةِ . والإرْشادَ عُنوانُ العَقيدَةِ الصّحيحةِ ؟ وأنّ المُستَشارَ مُؤتَمَنٌ . والمستَرشِدَ بالنُصحِ قَمِنٌ ؟ وأنّ أخاكَ هوَ الذي عذلَكَ . لا الذي عذَرَكَ ؟ وصديقَكَ منْ صدقَكَ . لا مَنْ صدّقَكَ ؟ فقال لهُ الحاضِرون : أيها الخِلّ الوَدودُ .
والخِدْنُ الموْدودُ . ما سِرّ كلامِكَ المُلغَزِ . وما شرْحُ خِطابِكَ الموجِزِ . وما الذي تبْغيهِ منّا ليُنْجَزَ ؟ فوَالذي حَبانا بمحبّتِكَ . وجعلَنا منْ صفْوَةِ أحِبّتِكَ . ما نألوكَ نُصْحاً . ولا ندّخِرُ عنْكَ نَضْحاً . فقال : جُزيتُمْ خيراً . ووُقيتُمْ ضَيراً . فإنّكُمْ ممّنْ لا يَشْقى بهِمْ جَليسٌ . ولا يصدُرُ عنهُمْ تلْبيسٌ . ولا يُخيَّبُ فيهِمْ مَظنونٌ . ولا يُطْوى دونَهُمْ مكْنونٌ . وسأبُثّكمْ ما حاكَ في صدْري . وأستَفْتيكُمْ في ما عيلَ فيهِ صبْري . اعْلَموا أني كُنتُ عندَ صُلودِ الزّنْدِ . وصُدودِ الجَدّ . أخْلَصْتُ معَ اللهِ نِيّةَ العقْدِ . وأعطَيتُهُ صَفقَةَ العهْدِ . على أنْ لا أسْبأ مُداماً . ولا أُعاقِرَ نَدامَي . ولا أحْتَسيَ قهوَةً . ولا أكْتَسيَ نشْوَةً . فسوّلَتْ ليَ النّفسُ المُضِلّةُ . والشّهوَةُ المُذلّةُ المُزِلةُ . أنْ نادَمْتُ الأبْطالَ . وعاطَيتُ الأرْطالَ . وأضَعْتُ الوَقارَ . وارتضَعْتُ العُقارَ . وامتطَيْتُ مَطا الكُمَيتِ . وتناسيْتُ التّوبَةَ تَناسيَ الميْتِ . ثمّ لمْ أقْنَعْ بهاتِيكُمُ المَرّةِ . في طاعَةِ أبي مُرّةَ . حتى عكفْتُ على الخَندَريسِ . في يومِ الخَميسِ . وبتُّ صَريعَ الصّهْباء . في اللّيلَةِ الغرّاء . وها أنا بادي الكآبَةِ . لرَفْضِ الإنابَةِ . نامي النّدامَةِ . لوصْلِ المُدامَةِ . شديدُ الإشْفاقِ . منْ نقْضِ الميثاقِ . مُعتَرِفٌ بالإسْرافِ . في عَبّ السُّلافِ :
فيَا قوْمِ هلْ كَفّارَةٌ تعْرِفونَها . . . تُباعِدُ منْ ذَنْبي وتُدني إلى ربّي
قال أبو زيد : فلمّا حلّ أُنشوطَةَ نفْثِهِ . وقَضى الوَطَرَ منِ اشتِكاء بثّهِ . ناجَتْني نفْسي يا أبا زيْدٍ . هذهِ نُهزَةُ صيْدٍ . فشمّرْ عن يدٍ وأيْدٍ . فانتهَضْتُ منْ مَجْثِمي انتِهاضَ الشّهْمِ . وانخرَطْتُ منَ الصّفّ انخِراطَ السّهْمِ . وقُلتُ :
أيها الأرْوَعُ الذي . . . فاقَ مجْداً وسؤدُدا
والذي يبْتَغي الرّشا . . . دَ ليَنجو بهِ غَدا
إنّ عندي عِلاجَ ما . . . بِتَّ منهُ مسَهَّدا
فاستَمِعْها عجيبةً . . . غادرَتْني مُلَدَّدا
أنا منْ ساكِني سَرو . . . جَ ذَوي الدّينِ والهُدى
كنتُ ذا ثرْوَةٍ بها . . . ومُطاعاً مُسَوَّدا
مرْبَعي مألَفُ الضّيو . . . فِ ومالي لهُمْ سُدَى
أشتَري الحمْدَ باللُّهى . . . وأقي العِرْضَ بالجَدا
لا أُبالي بمُنفِسٍ . . . طاحَ في البَذْلِ والنّدى
أوقِدُ النارَ باليَفا . . . عِ إذا النِّكسُ أخْمَدا
وبَراني المؤمِّلو . . . نَ مَلاذاً ومَقْصِدا لمْ يشِمْ بارِقي صَدٍ . . . فانْثَنى يشْتَكي الصّدَى
لا ولا رامَ قابِسٌ . . . قدْحَ زَندي فأصْلَدا
طالَما ساعَدَ الزّما . . . نُ فأصْبَحْتُ مُسْعَدا
فقَضى اللهُ أنْ يُغيّ . . . رَ ما كانَ عَوّدا
بوّأ الرّومَ أرْضَنا . . . بعْدَ ضِغْنٍ تولَّدا
فاسْتباحوا حريمَ مَنْ . . . صادَفوهُ موَحِّدا
وحوَوْا كلَّ ما استس . . . رّ بها لي وما بدا
فتطوّحْتُ في البِلا . . . دِ طَريداً مُشرَّدا
أجْتَدي الناسَ بعْدَما . . . كُنتُ من قَبْلُ مُجْتَدى
وتُرى بي خَصاصَةٌ . . . أتَمنّى لها الرّدى
والبَلاءُ الذي بهِ . . . شمْلٌ أُنسي تبَدّدا
إسْتِباءُ ابْنَتي التي . . . أسَروها لتُفْتَدى
فاسْتَبِنْ مِحنَتي وم . . . دّ إلى نُصْرَتي يَدا
وأجِرْني منَ الزّما . . . نِ فقدْ جارَ واعْتَدى
وأعِنّي على فَكا . . . كِ ابْنَتي منْ يدِ العِدَى
فبِذا تَنْمَحي المآ . . . ثِمُ عمّنْ تمرّدا
وبِهِ تُقبَلُ الإنا . . . بَةُ ممّنْ تزَهّدا
وهْوَ كفّارَةٌ لمَنْ . . . زاغَ منْ بعْدِ ما اهْتَدى
ولَئِنْ قُمتُ مُنشِداً . . . فلقَدْ فُهْتُ مُرشِدا
فاقْبَلِ النُصْحَ والهِدا . . . يَةَ واشْكُرْ لمَنْ هَدى
واسمَحِ الآنَ بالّذي . . . يتسنّى لتُحْمَدا
قال أبو زيدٍ : فلمّا أتْمَمْتُ هذْرَمَتي . وأُوهِمَ المسؤولُ صِدْقَ كلِمَتي . أغْراهُ القرَمُ إلى الكرَمِ بمؤاساتي . ورغّبَهُ الكلَفُ بحمْلِ الكُلَفِ في مُقاساتي . فرضَخَ لي على الحافِرَةِ . ونضَخَ لي بالعِدَةِ الوافِرَةِ . فانقلَبْتُ إلى وَكْري . فرِحاً بنُجْحِ مَكْري . وقد حصلْتُ منْ صوْغِ المَكيدةِ . على سوْغِ الثّريدَةِ . ووصلْتُ منْ حوْكِ القَصيدَةِ . إلى لوْكِ العَصيدَةِ . قال الحارثُ بنُ همّامٍ : فقلتُ لهُ سُبحانَ منْ أبدعَكَ . فما أعْظمَ خُدَعَكَ . وأخْبَثَ بدَعَكَ فاستَغْرَبَ في الضّحِك . ثمّ أنشدَ غيرَ مُرتَبِكٍ :
عِشْ بالخِداعِ فأنتَ في . . . دهْرٍ بَنوهُ كأُسْدِ بِيشَهْ
وأدِرْ قَناةَ المَكْرِ حت . . . ى تسْتَديرَ رَحى المَعيشَهْ
وصِدِ النّسورَ فإنْ تعذ . . . رَ صيدُها فاقْنَعْ بريشَهْ
واجْنِ الثّمارَ فإنْ تفُتْ . . . كَ فرَضّ نفسَكَ بالحشيشَهْ
وأرِحْ فؤادَكَ إنْ نَبا . . . دهْرٌ منَ الفِكَرِ المُطيشَهْ
فتغايُرُ الأحْداثِ يؤ . . . ذِنُ باستِحالَةِ كُلّ عيشَه











مصادر و المراجع :

١- مقامات الحريري

المؤلف: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري (المتوفى: 516 هـ)

دار النشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - 1981

الطبعة: الأولى

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید