المنشورات

ذو الرمة ومي

أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة قال: أنبانا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال: حدثني محمد بن أحمد الكابت قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن زياد الأعرابي.
قال: حدثني أبو صالح الفزاري قال: ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال عصمة بن مالك الفزاري شيخ منهم، بلغ مائة وعشرين سنة: إياي فسلوا عنه! كان حلو العينين، حسن المضحك، براق الثنايا، خفيف العارضين، إذا نازعك الكلام لا تسأم حديثه، وإذا أنشد أبر وحسن صوته.
جمعني وإياه مربع مرةً، فأتاني فقال: هيا عصمة! إن ميا منقرية، ومنفر أخبث حي وأقوفه لأثر، وأثبته في نظر، وأعلمه ببصر، وقد عرفوا آثار إبلي، فهل نزداد عليها مياً؟ قال: إي والله، الجؤذر بنت يمانية. قال: فعلينا بها! فجئت بها، فركب وردفته، ثم انطلقنا حتى نهبط على مي، وإذا الحي خلوف، فلما راتنا النسوة عرفن ذا الرمة، فتقوضن من بيوتهن حتى اجتمعن، وأنخنا قريباً، وجئناهن، وجلسنا، فقالت ظريفة منهن: أنشدنا يا ذا الرمة، فقال لي: أنشدهن، فأنشدت قوله:
وَقَفْتُ على رَبْعٍ لمَيّةَ ناقَتي، ... فما زِالتُ أبكي عنده، وَأُخاطبُه.
فلمّا انتَهَيتُ إلى قولِه:
نَظَرْتُ إلى أظْعَانِ مَيّ كَأنّها ... ذُرَى النّخلِ، أوْ أثلٌ تميلُ ذَوَائُبهْ.
فَأسْبَلَتِ العَيْنانِ وَالقَلْبُ كَاتِمُ ... بِمُغرَوْرِقٍ نَمّتْ علي سَوَاكِبُهْ.
بَكَى وَامِقٌ، جَاءَ الفِرَاقُ، وَلم يُجِل ... جَوَائِلَهَا، أسْرَارُهُ أوْ مَعَاتِبُه.
قالت الظريفة: لكن اليوم فليجل، ثم مضيت. فلما انتهيت إلى قوله:
وَقَدْ حَلَفت باللهِ مَيّةُ مَا الّذِي ... أحَادِثُهَا إلاّ الّذِي أنَا كَاذِبُهْ.
إذَنْ، فَرَمَاني اللهُ مِنْ حَيثُ لا أرَى، ... وَلا زَالَ في أرضِي عَدُوٌّ أُحَارِبُهْ.
قالت مي: ويحك يا ذا الرمة خف عواقب الله، عز وجل، ثم مضيت حتى انتهيت غلى قوله:
إذَا سَرَحَتْ من حُبّ مَيّ سَوَارِحٌ ... عَلى القَلْبِ آتَتْهُ جَميعاً عَوَازِبُهْ.
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله! فقالت مية: ما أصحه وهنيئاً له.
قال: فتنفس ذو الرمة تنفسةً كاد حرها يطير بلحيته، ثم مضت حتى انتهيت غلى قوله:
إذا نَازَعَتكَ القَوْلَ ميّةُ أوْ بَدَا ... لك الوَجهُ منها أوْ نضَا الدِّرْعَ سالبُهْ.
فَيَا لكَ مِنْ خَدٍّ أسِيلٍ وَمَنْطِقٍ ... رَخِيمٍ وَمِنْ خُلْقٍ تَعَلّلَ جَاذِبُهْ.
فقالت الظريفة: هذا الوجه قد بدا، وهذا القول قد تنوزع، فمن لنابأن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت إليها مي فقالت: ما لك، قاتلك الله، ماذا تجنين به؟ فتضاحكت النسوة، فقالت الظريفة: إن لهذين لشأناً، فقم بنا عنهما، فقمن، وقمت فصرت إلى بيت قريب منهما أراهما، ولا أسمع كلامهما إلا الحرف بعد الحرف، فوالله ما رأيته برح مكانه، ولا تحرك. وسمعتها تقول: كذبت والله، فوالله ما أدري ما الذي كذبته فيه، فتحدثا ساعةً، ثم جاءني ومعه قويريرة فيها دهن طيب، فقال: هذه دهنة أتحفتنا بها مي، فشأنك بها. وهذه قلائد زودتنا للجؤذر، فلا واللخ لا قلدتهن بعيراً أبداً. ثم عقدهن في ذؤابة سيفه.
قال: فانصرفنا، فلم نزل نختلف إليها، مربعنا، حتى انقضى. ثم جاءني يوماً فقال: يا عصمة! قد ظعنت مي، فلم يبق إلا الديار، والنظر في الآثار، فانهض بنا ننظر إلى آثارها، فخرجنا حتى وقفنا على ديارها، فجعل ينظر ثم قال:
ألا، فَاْسلَمي يا دَارَ مَيّ عَلى البِلى، ... وَلا زَالَ مُنْهَلاًّ بجرْعائِكِ القَطْرُ.
فإنْ لم تَكُوني غيرَ شَامٍ بقَفْرَةٍ، ... يَجُرّ بهَا الأذْيَالَ صَيفِيّةٌ كُدْرُ.
ثم انتضحت عيناه بعبرةٍ، فقلت: مه! فقال: غني لجلد، وإن كان مني ما ترى، فما رأيت صبابةً قط، ولا تجلداً أحسن من صبابته وتجلده يومئذ، ثم انصرفنا، فكان آخر العهد به.













مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید