المنشورات

الصوفي المتقشف

وبإسناده قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي: حدثني الصلت بن بهرام المجاشعي قال: حدثني محمد بن االخضر التيمي قال:
كان أبو عمرو الضبابي من أحسن من رأيته وجهاً ممن يصحب الصوفية، وكان لا يرافق أحداً ولا يجالسه ولا يلابسه إلا في طريق، فأتاني ذات يومٍ، ونحن ببلاد الروم، فقال: هل لك في مرافقتي، فغني قد مللت الوحدة، وطالت علي الوحشة.
فقلت: علا خلال ثلاثٍ.
قال: وما هي؟ قلت: على أن لا أراك ضاحكاً إلى أحد من خلق الله، ولا مشغلاً بغير طاعة الله، عز وجل، ولا تعمل عملاً حتى أقول لك.
قال: قد فعلت.
وكان معي لا يفارقني في حج ولا غزو، فكنت أرى منه أموراً أعلم أن الله سيرفعه بها في الدنيا والآخرة من حسن صلاته وكثرة صيامه وطول صمته وقلة كلامه، فقلت له، ذات يوم، لأتبين معرفة عقله: ألا أشتري لك جارية؟.
فقال: وما أصنع بها؟ قلت: ما يصنع الرجل بملك يمينه!.
فقال: لو أردت هذا لم أترك أهلي وأشخص عن وطني وأخرج عن دنياي، ولكان لي منهم مقنع وفي المقام معهم متسع.
فقلت: ألق هذا الصوف عنك، فإنه قد أثر ببدنك، ونهك جسمك.
فقال: أتأمري أن ألقي عني ثوباً أتقرب إلى الله، عز وجل، بخشونته وريحه، وأنا أرجو منه حسن الثواب عليه عند منقلبي إليه.
قلت: فهل لك أن تفطر فإن الصيام قد أنحلك والظمأ قد غيرك؟ فقال: سبحان الله، ما أعجب ما تأمرني به! هل الدنيا إلا يومان، يوم قد مضى علي ويوم أنا فيه لا أدري بما يختم لي من رحمةٍ أو عذاب، فإن عذبني وأنا على حالةٍ أتقرب إليه بها، فهو أجدر أن يعذبني إذا فعلت أمراً أنا فيه مقصر.
فقلت: فصم يوماً وأفطر يوماً.
فقال: ذلك صوم الأبرار، ومن أمن النار، الذين علموا أن الله، عز وجل، متجاوز عنهم، وقابل منهم، فأما أنا فأنت تعلم أني غير عالم بما سبق علي في الكتاب من شقاء وسعادة، والله لئن عذبني الله على طاعته أحب إلي من أن يغفر لي وأنا على معصيته، على أنه غير جائر على من خلقه ولا معذب له إلا بذنب.
قلت: أفلا أشتري لك وطاءً تنام عليه؟ فقال: وأي وطاء أوطأ من ظهر الأرض، وقد سماه الله، عز وجل مهاداً، والله لا أفترش فراشاً ولا أتوسد وساداً، حتى ألحق بالله، عز وجل.
فقلت: فهل لك أن تريح نفسك في هذه الغزاة، وترجع؟ فقال: واعجباه من قولك! تأمرني أن أرجع عن الجنةن وقد فتح لي بابها، والله لا أزال أعرض نفسي على الله تعالى لعله يقبلين، فإن رزقني وخصني بالشهادة، فهو الذي كنت أحاول وبه أطالب، فإن حرمني ذلك فبالذنوب التي سلفت، وأنا أسأل الله أن يتفضل علي بما سألته، ويجيبني في ما دعوته.
فغزا معنا، ونحن في خلق كثير مع محمد بن مصعب، فلقينا العدو، فكان أول من جرح، فوقفت عليه، فقلت: أبشر بثواب الله، عز وجل، فقد أعطاك الرضا، وفوق المزيد.
فقال بصوت ضعيف: الحمد لله على كل حالٍ، لقد نظرت إلى كل ما تمنيت، وفوق ما اشتهيت، وبلغت ما أحببت، وأدركت ما طلبت من حور وولدان وسلسبيل وريحان، وإياك والتقصير، لعل الله، عز وجل، أن يبلغك ما بلغني ويرزقك ما رزقني، ثم فاضت نفسه.










مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید