المنشورات

العجوز المتصابية

أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد العدل أن أبا عبيد الله محمد بن عمران أخبرهم في ما أجاز لهم قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: إني لفي سوق ضرية، وقد نزلت على رجلٍ من بني كلاب، وكان متزوجاً بالبصرة، وكان له أهل بضرية، إذ أقبلت عجوز على ناقة لها حسنة البزة، يتخيل فيها باقي جمال، فأناخت، وعقلت ناقتها، وأقبلت تتوكأ على محجن لها، فجلست قريباً منا، فقالت: هل من منشد؟ فقلت للكلابي: أيحضرك شيء؟ فقال: لا! فأنشدتها شعراً لبشر بن عبد الرحمن الأنصاري، وهو:
وَقَصِيرَةِ الأيّامِ وَدَّ جَلِيسُهَا ... لَوْ بَاعَ مَجْلِسَهَا بِفَقْدِ حَمِيمِ.
محذِياتِ أخي الهوَى غُصَصَ الجوَى ... بِدَلالِ غَانِيَةٍ وَمُقْلَةِ رِيمِ.
صَفْرَاءَ مِنْ بَقَرِ الجِوَاءِ، كأنّمَا ... خَفَرُ الحَيَاءِ بهَا رُدَاعُ سَقِيمِ.
فجشت على ركبتهيا، وأقبلت تنكت الأرض بمحجنها وأنشأت تقول:
قِفي يا أُمَامَ القَلْبِ، نَقضِ لُبانةً ... وَنَشكُ الهوَى ثمّ افعلي ما بدَا لكِ.
فَلَوْ قُلتِ طَأْ في النّارِ أعْلَم أنّه ... هوىً منكِ لي أوْ مِنَةٌ من نَوالكِ.
لقَدّمتُ رِجلي نحوَهَا فوَطِئتُها، ... هوىً منكِ لي أوْ هَفوَةٌ من ملالكِ.
سَلي البانةَ العُليا مِنَ الأجرَعِ الذي ... به البانُ، هل حاوَلتُ غيرَ وِصَالكِ.
وَهلْ قمتُ في أطلالِهنّ عَشِيّةً، ... قيامَ سَقيمِ القَلبِ، وَاخترْتُ ذلكِ.
ليَهنَكِ إمساكي بكفّي على الحشا، ... وَرَقْرَاقُ دَمعي رَهبَةً من زِيالكِ.
قال الأصمعي: فأظلمت والله علي الدنيا لحلاوة منطقها، وفصاحة لهجتها، فدنوت منها فقلت: نشدتك بالله لما زدتني من هذا؟ فرأيت الضحك في عينيها، وأنشدت:
وَمُسْتَحْقِبَاتٌ لَيسَ يَحقِبنَ زُرْنَنا، ... وَيَسحَبنَ أذيَالَ الصّيانةِ وَالشِّكلِ.
جَمَعنَ الهَوَى حَتى إذا مَا مَلَكْنَه ... نزَعنَ، وَقد أكثرْنَ فينا من القَتْلِ.
مرِيضَاتُ رَجعِ القوْل خُرْسٌ عن الخنا، ... تَألّفنَ أهْوَاءَ القُلوبِ بلا بَذلِ.
موَارِقُ مِنْ حَبلِ المُحِبّ عَوَاطِفٌ ... بحَبلِ ذوِي الألبابِ بالجِدّ وَالهَزْلِ.
يُعَنّفُني العُذّالُ فِيهِنّ، وَالهَوَى ... يُحَذّرُني من أنْ أُطيعَ ذوِي العَذْلِ.
فقلت: أحسنت، والذي خلقك! فقالت: اكذاك؟ قلت: نعم! قالت: فنشرك في هذا الإحسان غيركم، ثم قامت، فوالله ما مسعتمنشدةً بعدها أحلى ألفاظاً منها.









مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید