المنشورات

مختصر يصف نفسه في ساعة الموت

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بفسطاط مصر قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي الصوفي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي قال: حدثنا أبو كامل الحراني قال: حدثني أبو محمد بن زرعة قال: كان خضر بن زهرة الشيباني من أعبد الصوفية، وأنسكهم وأشدهم اجتهاداً، وأملكهم لنفسه، وكان مقبول القول مطاعاً في بلده، فارساً شجاعاً، ذا مال وافر، فنشأ له غلام قد رباه كأحسن ما رؤي من الغلمان في حفظ القرآن وحفظ الحديث وحجسن المناظرة والأدب والعبادة، وكان قد أخذ عنه، وسمع حتى كان بعض الناس يوازيه به في الفروسية والشجاعة والمعرفة، وكانا ملازمين لغزو، فخرجا في بعض السرايا، فأصيبت السرية، وأفلت منها جرحى، وفيها خضر وغلامه جريحان، مثخنان، فكمنا في بعض الغياض، فاشتدت علة الغلامن وضعف عن الحركة والنهوض، فأقمنا عليه ثلاثاً، ونزل به الموت، فأقبل يضحك أحياناً، ويبكي أحياناً، فقال له خضر: مم تضحك يا بني؟ قال: أضحك إلى جوار يضحكن إلي، ويقبلن بوجوههن علي.
قال: فما يبكيك؟ قال: أبكاني فراقك وحبسك في الدنيا بعدي.
قال: أما لئن قلت ذلك يا بني ليكونن عمري بعدك قصيراً، وحزني عليك كثيراً، وفرحي بعدك قليلاً، وقلبي بفراقك عليلاً، فسبحان من أبقاني بعدك للأحزان، وعرضني لنوائب الزمان، وجعلني غرضاً لنوازل الحدثان.
وبكى حتى انقطع عن الكلام، فقال له: لا تبك فإن لقاءنا قريب، واجتماعنا سريع.
فقال: أتوصي بشيء يا بين حتى أبلغ فيه محبوبك؟ قال: نعم! قال: قل! قال: عليك بالصبر بعدي، فغنها درجة الأبرار، ومعقل الأخيار، وإياك والجزع، فإنه سبيل لكل ضعيف، ومعول كل حاطئ، وغياك والزيغ، والزم ما أنت عليه، فإنه يوشك أن يقدم بك على غبطة وسرور وسعادة وحبور، فلو رأيت ما أعد الله تعالى لي من الكرامة، وتفضل علي به من الرحمة، لأحببت أن تكون المقدم إليه قبلي.
فقال: لقد سررتني يا بني بما وصفت، وغبطتك بما قد بلغت، فهل بقي سبيل أمر من أمور الدنيا تحب أن تبلغه حتى أبلغه لك إن رزقني الله العافية، وتخلصت سالماً، ووهبت لي الحياة.
قال: نعم! تجعل لي معك سالماً، ووهبت لي الحياة.
قال: نعم! تجعل لي معك سهماً في حجك وغزوك وصدقتك.
قال: قد فعلت، لوالدي الثلث ولك الثلث، مما تفضل الله به علي من الأجر.
فقال: أما إذ بدا لك ما سألت، فإني أقول لم أكن قلته لك، ولا أطلعتك عليه: ما أتيت أمراً من أمور الخير إلا قلت: اللهم ما قسمت لي فيه من أجر فاجعله لمولاي دوني.
قال: بم استحققت ذلك منك يا بني؟
قال: لأنك ملكتني صغيراً، فاحسنت ملكي، وصحبتي كبيراً، فوقفت في صحبتي، وخفت مقام الله في، ونزهت نفسك عن السوء، وصنتني عن أفعال قد كانت عن غيرك مأثورةً عنهم، ومحفوظةً مشهورة، قد تحدث بها النساك عنهم وسمعوها منهم، وشهدت الحفظة وكتبتها الملائكة من هجومهم على السيئات وركوبهم الفاحشات، وجموحهم في الباطل وتركهم سبيل الحق، وإيثارهم لشهواتهم في جميع حالاتهم، وقد صحبتك على مر الأيام وكر السنين فلم أرك تؤثر شيئاً من هواك على أمر آخرتم، ولم أر أحداً الله أهيب في قلبه منك، فنفعك الله بذلك، وجعله سبباً للنظر إلى وجهه، والبلاغ إلى رحمته، والخلوة في داره، والمقام في جواره.
قال أبو محمد بن زرعة: فدنوت منه، وقلت: بابي أنت وأمي! اجعلني في شفاعتك.
قال: أنت الرفيق والصاحب، أنت أول من أشفع له بعد مولاي، ولهؤلاء الذين معك.
فقال له مولاه: يا بين! هل تجد للموت ألماً، وترى من مقدماته علماً؟ فإن كنت ترى شيئاً، فحدثني بكل ما تراه قبل أن تغلب على الحديث، فلا يمكنك أن تخبرني بشيء مما تجد أو ترى.
قال: أما ما أجده قلبي كأنه سعفة في يوم ريح عاصفٍ من خفقانه، أو ريشة في جناح طائر إذا أمعن في طيرانه، وأجد نفسي ساعةً بعد ساعة تذبل كالسراج إذا أراد أن يطفأ، وأجد عيني كأن الأسنة تنخسها، فما أقدر على جمرة تتوقد، واجد عظامي كأنه بين رحيين تطحنانها، وأجد أمعائي وأحشائي كأنها في أفواه سباع تمضغها.
فبكى خضر وقال: كف عني، لا تصف شيئاً، فقد كاد عقلي أن يذهل بصفتك وقلبي يتصدع مما نزل بك.
فقلت له: أليس في ما سمعت وسمعنا أن الشهيد لا يجد من ألم السلاح إلا كما يجد أحدكم ألم الشوكة أو أقل؟ قال: بلى! قال: فقلت: أفلست شهيداً مثلهم؟ قال: بلى! قلتك فما بالك أنت تألم من بينهم؟ قال: إنما ذلك عند خروج النفس ورؤية ملك الموت، ولم أبلغ بعد إلى ذلك.
فقال له خضر: فهل ترى شيئاً.
قال: أرى صوراً مقبلةً لها أجنحة تطير بها، ترفرف بين السماء والأرض.
قال: فهل قرب منك أحد منها؟ قال: نعم جماعة.
قال: صفهم لي.
قال: أرى صوراً لم أر أحسن منها منظراً، بعضهم جناحاه من لؤلؤ وسائر بدنه من ياقوت، وبعشهم جناحاه من ياقوت وسائر بدنه من زمرد.
قال: فهل ترى ملك الموت؟ قال: ما أراه! أليس في ما كتبت من الحديث أن العبد إذا عاين ملك الموت شخص ثم أمسك ساعةً فلم يتكلم؟ فقال له خضر: هل ترى شيئاً؟ قال: أرى شخصاً قد هبط من السماء إلى الأرض حتى سد ما بين الخافقين، قد نشر أجنحته، فأشرقت الشمس من حسنه وأضاءت الدنيا من نوره، وسكن عني ما أجد من الألم حتى كأنه لم يكن، فما أحس منه شيئاً، ثم سكت، فلم يتكلم بكلمة حتى مات، رحمه الله.










مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید