المنشورات
ليلى الأخيلية والحجاج
أخبرنا أبو جعفر بن مسلمة في ما أذن لنا في روايته أن أبا القاسم إسماعيل بن سعيد بن سويد أخبرهم إجازة قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن عبيد عن أبي الحسن المدائني عمن حدثه عن مولى لعنبسة أن سعيد بن العاص قال: كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد إذا دخل على الحجاج، فدخل يوماً، فدخلت إليهما، وليس عند الحجاج غير عنبسة، فقعدت فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئاً فجاءني به، ثم جيء بطبق، حتى كثرت الأطباقن وجعل لا يؤتون بشيء إلا جاءني منه بشيء، جتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهم، ثم جاء حاجب فقال: امرأة بالباب، فقال له الحجاج: أدخلها! فدخلت، فلما رآها الحجاج، طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد اصاب الأرض، فجاءت حتى بين يديه، فنظرت إليها فإذا هي امرأة قد أسنت، حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها، فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما أتىبك؟ فقالت: إخلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد.
فقال لها: صفي لنا الفجاج.
فقالت: الفجاج مغبرة، والأرض مقشعرة، والمنزل معتل، وذو العيال مختل، والهالك المقل، والناس مسنتون، رحمة الله يرجون. وأصابتنا سنون مجحفة مبطلة لم تدع لنا هيعاً ولا ريعاً، ولا عافطة ولا ناقلة، أذهبت الأموال، وفرقت الرجال، وأهلكت العيال. ثم قالت: إني قد قلت في الأمير قولاً! قال: هاتي، فأنشأت تقول:
أحَجّاجُ لا يُفْلَلْ سِلاحُكَ إنّمَا ال ... مَنَايَا بِكَفّ اللهِ حَيْثُ تَرَاهَا.
أحَجّاجُ لا تُعْطِ العُصَاةَ مُنَاهُمُ، ... ولا اللهُ يُعْطي للعُصَاةِ مُنَاهَا.
إذَا هَبَطَ الحَجّاجُ أرْضاً مَرِيضَةً ... تَتَبّعَ أقْصَى دَائِهَا فَثَفَاهَا.
شَفَاهَا مِنَ الدّاءِ العُضَالِ الذِي بها ... غُلامٌ إذَا هَزّ القَنَاةَ سَقَاهَا.
سَقَاهَا، فَرَوّاهَا بِشُرْبٍ سِجَالُهُ ... دِمَاءُ رِجَالٍ حَيْثُ قَالَ حَمَاهَا.
إذَا سَمِعَ الحَجّاجُ رِزّ كَتِيبَةٍ، ... أعَدّ لهَا قَبْلَ النّزُولِ قِرَاهَا.
أعَدّ لَهَا مَسْمُومَةً فَارِسِيّةً ... بِأيْدِي رِجَالٍ يَحلُبُونَ صَرَاهَا.
فَمَا وَلَدَ الأبْكَارُ وَالعُونُ مِثْلَهُ، ... بِنَجْدٍ وَلا أرْضٍ يَجِفّ ثَرَاهَا.
قال: فلما قالت هذا، قال الحجاج: قاتلها الله! ما أصاب صفتي شاعر مذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: والله إني لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبداً، ثم التفت إليها فقال: حسبك.
قالت: إني قد قلت أكثر من هذا، قال: حسبك، ويحك حسبك، ثم قال: يا غلام اذهب إلى فلان فقل له اقطع لسانها. قال: فأمر بإحضار الحجام، فالتفتت إليه فقالت: ثكلتك أمك! أما سمعت ما قال؟ إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة. فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضباً، وهم بقطع لسانه وقال: ارددها، فلما دخلت عليه قالت: كاد، وأمانة الله، يقطع مقولي. ثم أنشأت تقول:
حَجّاجُ! أنتَ الذي مَا فَوْقَهُ أحَدٌ ... إلاّ الخَلِيفَةُ وَالمُسْتَغْفَرُ الصَّمَدُ.
حَجّاجُ! أنتَ شهابُ الحرْبِ إذ لقِحت، ... وَأنتَ للنّاسِ في جِنحِ الدُّجَى تَقِدُ.
ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير إلا أنا بم نر امرأة قط أفصح لساناً ولا أحسن محاورة ولا أملح وجهاً ولا أرصن شعراً منها. فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة. فقالت: نعم أيها الأمير، هو الذي يقول:
وَهَلْ تَبْكِيَنْ لَيْلى إذا مَا بكَيتُها ... وَقَامَ عَلى قَبْرِي النّسَاءُ النّوائحُ.
كمَا لَوْ أصَابَ المَوْتُ لَيْلى بكَيتُهَا، ... وَجَادَ لهَا دَمْعٌ مِنَ العَينِ سَافحُ.
وَأُغْبَطُ مِنْ لَيلى لا أنَالُهُ، ... بلى! كُلُّ مَا قَرّتْ بِهِ العَينُ صَالحُ.
وَلَوْ أنّ لَيلى الأخيَلِيّةَ سَلّمَتْ ... عليّ، وَدُوني تُرْبَةٌ وَصَفَائحُ.
لسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أوْ زَقَا ... إليها صَدىً من جانِبِ القَبرِ صَائحُ.
فقال لها: زيدينا يا ليلى من شعره، فقالت: هو الذي يقول:
حَمَامَةَ بَطنِ الوَادِيَينِ تَرَنّمِي، ... سَقَاكِ مِنَ الغُرّ الغَوَادِي مطيرُهَا.
أبيني لنا، لا زَالَ رِيشُكِ نَاعِماً، ... وَلا زِلتِ في خَضرَاءَ غَضٍّ نضِيرُهَا.
وَأُشْرِفُ بِالقَوْزِ اليَفَاعِ لَعَلّني ... أرَى نَارَ لَيلى أوْ يَرَاني بَصِيرُهَا.
وَكُنتُ إذا مَا جِئتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ ... فَقَدْ رَابَني مِنها الغدَاةَ سُفُورُهَا.
يَقُولُ رِجَالٌ: لا يَضِيرُكَ نَأيُهَا! ... بَلى! كلُّ ما شَفّ النّفوسَ يَضِيرُهَا.
بَلى يَضِيرُ العَينَ أن تُكثرَ البُكَى، ... وَيُمْنَعَ مِنْهَا نَوْمُهَا وَسُرُورُهَا.
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيلى بِأنّيَ فَاجِرٌ، ... لنَفسِي تُقَاهَا، أوْ عَلَيها فُجورُهَا.
فقال لها الحجاج: يا ليلى ما الذي رابه من سفورك؟ فقالت: أبها الأمير، كان يلم بي كثيراً، فأرسل إلي يوماً أني آتيك، وفطن الحي، فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت، فعلم أن ذلك لشرٍ، فلم يزد على التسليم والرجوع. فقال: لله درك، فهل رأيت منه شيئاً تكرهينه؟ فقالت: لا والذي أسأله أن يصلحك غير أنه قال لي مرةً قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر، فقتل له:
وذِي حَاجَةٍ قُلْنَا لَهُ: لا تَبُحْ بهَا ... فَلَيْسَ إلَيهَا مَا حَيِيتُ سَبِيلُ.
لَنَا صَاحِبٌ لا يَنْبَغي أنْ نَخُونَهُ، ... وَأنتَ لأخرَى فَارِغٌ وَحَلِيلُ.
فلا والذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئاً. حتى فرق الموت بيني وبينه. قال: ثم ماذا؟ قالت: لم يلبث أن خرج في غزاة له فأوصى ابن عمه: إذا أتيت الحاضرة من بني عبادة، فناد بأعلى صوتك:
عَفَا اللهُ عَنهَا! هَلْ أبِيَنّ لَيلةً ... مِنَ الدّهرِ لا يَسْرِي إليّ خَيَالُها.
فخرجت وأنا أقول:
وَعَنهُ عَفَا رِبي، وَأحسَنَ حَالَهُ، ... فَعَزّ عَلَيْنَا حَاجَةً لا يَنَالُهَا.
قال: ثم ماذا؟ قالت: لم يلبث أن مات، فأتاني نعيه. قال: فأنشدينا بعض مراثيك، فأنشدت:
لتَبْكِ عَلَيهِ مِنْ خَفَاجَةَ نُسْوَةٌ، ... بِمَاءِ شُؤونِ العَبْرَةِ المُتَحَدِّرِ.
قال: فأنشدينا:
كَأنّ فَتى الفِتيَانِ تَوْبةَ لم يُنِخْ ... قَلائصَ يَفحَصْنَ الحَصَا بالكَرَاكر.
فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي، وكان من جلساء الحجا: من هذا الذي تقول هذه هذا فيه؟ فوالله إني لأظنها كاذبة. فنظرت إليه، ثم قالت: أيها الأمير! إن هذا القائل لو رأى توبة لسره أن لا يكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه. فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عنه غنياً.
ثم قال لها: سلي ليلى تعطي. قالت: أعط فمثلك أعطى فأجزل.
قال: لك عشرون. قالت: زد فمثلك زاد فأجمل. قال: لك أربعون. قالت: زد فمثلك زاد فأفضل. قال: لك ستون. قالت: زد فمثلك زاد فأكمل. قال: لك ثمانون. قالت: زد فمثلك زاد فأتم. قال: لك مائة، واعلمي يا ليلى أنها غنم، قال: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جواداً وأمجد مجداً وأورى زنداً من أن تجعلها غنماً. قال: فما هي ويحك يا ليلى؟ قالت: مائة ناقة يدعى بها. فأمر بها ثم قال: ألك حاجةٌ بعدها؟ قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي في قرن. قال: قد فعلت.
وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هارباً عائذاً بعبد الملك، فاتبعه إلى الشام، فهرب إلى قتيبة، فمات بقومس، ويقال بحلوان.
مصادر و المراجع :
١- مصارع العشاق
المؤلف: جعفر بن
أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)
الناشر: دار
صادر، بيروت
25 مايو 2024
تعليقات (0)