المنشورات

عشق ليس فيه فحش

أنبأنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا العتبي قال: كان عند خالد بن عبد الله فقهاء من أهل الكوفة، فيهم أبو حمزة الثمالي، فقال خالد: حدثونا بحديث عشق ليس فيه فحش! فقال أبو حمزة الثمالي: أصلح الله الأمير! زعموا أنه ذكر عند هشام بن عبد الله غدر النساء وسرعة تزويجهن. فقال هشام: إنه ليبلغني من ذلك العجب.
فقال بعض جلسائه: أنا أحدثك عما بلغني من ذلك.
بلغني ان رجلاً من بني يشكر يقال له غسان بن مهضم من العذافر، كانت تحته ابنة عم له يقال لها أم عقبة بنت عمرو بن الأجبر، وكان لها محباً، وكانت هي له كذلك، فلما حضره الموت، وظن أنه مفارق الدنيا، قال ثلاثة أبيات. ثم قال لها: يا أم عقبة! اسمعي ما أقول، وأجيبيني بحق، قال ثلاثة أبياتٍ. ثم قال لها: يا أم عقبة! اسمعي ما أقول، وأجيبيني بحق، فقد تاقت نفسي إلى مسألتك عن نفسك، بعدما يواريني التراب.
فقالت: قل، فوالله لا أجيبك بكذبٍ ولأجعلنه آخرخطاب مني.
فقال، وهو يبكي بكاءً منعه الكلام:
أخبريني بِمَا تُرِيدِينَ بَعْدِي، ... وَالذي تُضْمِرينَ يَا أُمَّ عُقْبَهْ.
تحفَظِيني مِنْ بَعدِ مَوْتي لِما قَدْ ... كان مني من حسنِ خُلقٍ وَصُحِبهْ.
أمْ تُرِيدينَ ذَا جَمَالٍ وَمَالٍ، ... وَأنا في الترَابِ في سُحقِ غُرْبَهْ.
فأجابته ببكاء وانتحاب:
قَد سَمِعنا الّذِي تقُولُ وَمَا قد ... خِفتَهُ يا خَليلُ من أُمّ عُقبَهْ.
أنا مِنْ أحْفَظِ الأنَامِ وَأرْعَا ... هم لِما قد أوليتُ مِن حُسنِ صُحبهْ.
سَوْفَ أبكيكَ ما حَيِيتُ بِشَجوٍ ... وَمَرَاثٍ أقُولُهَا وَبِنَدْبَهْ.
قال: فلما قالت ذلك طابت نفسه، وفي النفس ما فيها، فقال:
أنَا وَالله وَاثِقٌ مِنْكِ لَكِنْ ... رُبّمَا خِفْتُ مِنكِ غَدْرَ النّساءِ.
بَعْد مَوْتِ الأزْوَاجِ يا خيرَ مَنْ عُو ... شِرَ فَارْعَيْ حَقّي بحُسنِ الوَفاءِ.
إنّي قَد رَجَوْتُ أنْ تَحفَظي العَه ... دَ، فكُوني إنْ متُّ عندَ الرّجَاءِ.
قال: ثم اعتقل لسانه، فلم ينطق حتى مات. فلم تلبث بعده حتى خطيت من كل جانب، ورغبت فيها الأزواج لاجتماع الخصال الفاضلة فيها من العقل والجمال والعفاف، فقالت مجيبة لهم:
سَأحفَظُ غَسّاناً عَلى بُعدِ دَارِهِ ... وَأرْعاهُ حتى نلتقي يوْمَ نُحشَرُ.
وَإني لفي شُغلٍ عنِ النّاسِ كلّهم ... فكفّوا! فما مثلي بمَن ماتَ يَغدُرُ.
سأبكي عَلَيهِ مَا حَيِيتُ بِعَبرَةٍ ... تَجُولُ على الخدّينِ مني وَتَحدُرُ.
فأيس الناس منها حيناً، فلما مرت بها لأيام نسيت عهده وقال: من مات فقد فات، فأجابت بعض خطابها، فتزوجها، فلما كانت الليلة التي أراد الدخول بها جاءها غسان في النوم، وقد أغفت، فقال:
غدَرْتِ، وَلم تَرْعَيْ لبَعلِكِ حُرْمَةً، ... وَلمْ تَعرِفي حَقّاً، وَلم تَحفَظي عَهدَا.
وَلمْ تَصْبِري حَوْلاً حِفَاظاً لصَاحِبٍ، ... حَلَفتِ لَهُ يَوْماً وَلمْ تُنجِزِي وَعدَا.
غَدَرْتِ بهِ لمّا ثَوَى في ضَرِيحِهِ، ... كذلكَ يُنسَى كلُّ مَن سكَنَ اللَّحدَا.
قال: فلما سمعت هذه الأبيات انتبهت مرتاعة مستحيةً منه كأنه بات معها في جانب البيت، وأنكر ذلك منها من حضرها من نسائها، فقلن: ما لك، وما حالك، وما دهاك؟ فقالت: ما ترك غسان لي في الحياة أرباً، ولا بعده في سرور رغبةً. أتاني في منامي الساعة، فأنشدني هذه الأبيات، ثم أنشدتها وهي تبكي بدمعٍ غزير وانتحاب شديد، فلما سمعن ذلك منها أخذن بها في حديث آخر لتنسى ما هي فيه، فغافلتهن وقامت، فلم يدركنها حتى ذبحت نفسها حياءً مما كادت أن تركب بعده من الغدر به والنسيان لعهده. فقالت امرأة منهن: قد بلغنا أن امرأة أتاها زوجها في المنام فلامها في مثل هذا، فقتلت نفسها. فما سمعنا به.
قال: وكانت المرأة القائلة هذا الكلام صاحبة شعر ورجز فقالت:
مَاذَا صَنَعْتِ وَمَاذَا ... لَقِيتِ مِنْ غَسّانِ.
قَتَلْتِ نَفسَكِ حُزْناً ... يَا خِيرَةَ النِّسْوَانِ.
وَفَيتِ مِنْ بَعدِ مَا قَد ... هَمَمْتِ بِالعِصْيَانِ.
إنّ الوَفَاءَ مِنَ الل ... هِ، لَمْ يَزَلْ بِمَكَانِ.
قال: فلما بلغ زوجها، وكان يقال له المقدام بن حبيش، وكان قد أعجب بها، أنها قالت: ما كان لي مستمتع بعد غسان، قال: هكذا فلتكن النساء في الوفاء، وقل من تحفظ ميتاً، إنما هي أيام قلائل حتى ينسى وعنه يسلى. 
فقال هشام: صدق وبر، لجاد ما أدركه عقله وحسن عزائه حين فاتته طلبته. أحسنت المرأة ووقفت، وأحسن الرجل فصبر.












مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید