المنشورات
عاشق يقتله الصد
حدثني محمد بع عبد الله الأندلسي، وكتبه لي بخطه، حدثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد الحافظ الأندلسي، حدثني أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجي الطبيب الأديب قال: كنت أختلف في النحو إلى محمد بن خطاب النحوي في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد ابن قاضي قضاة الأندلس أسلم ابن عبد العزيز صاحب المزني والربيع، قال محمد بن الحسن: وكان أجمل من رأته العيون، وكان معنا عند محمد بن خطاب أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب والشعر، فاشتد كلفه بأسلم، وفارق صبره وصرف فيه القول متستراً بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه، وجرت على الألسنة وتنوشدت في المحافل.
فلعهدي بعرس في بعض الشوارع بقرطبة، والكوري الزامر قاعد في وسط المحفل، وفي رأسه قلنسوة وشرٍ، وعليه ثوب خز عبيدي، وفرسه بالحلية المحلاة يمسكه غلامه، وكان يزمر لأمير المؤمنين الناصر، وهو يزمر في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم، وهو:
أسْلَمَني في الهَوَى ... أسْلَمُ هَذَا الرَّشَا.
غَزَالٌ لَهُ مُقْلَةٌ ... يُصيبُ بهَا مَنْ يَشَا.
وَشَى بَيْنَنَا حَاسِدٌ، ... سَيُسْألُ عَمّا وَشَى.
وَلَوْ شَاءَ أن يَرْتَشِي ... على الوصْل رُوحي ارتشى.
ومغن محسن يسايره فيها، فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته، والجلوس على بابه.
وكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب أسلم سائراً ومقبلاً نهاره كله، فامتنع أسلم عن الجلوس على باب داره نهاراً، فإذا صلى المغرب، واختلط الظلام خرج مستروحاً، وجلس على باب داره، فعيل صبر أحمد بن كليب فتحيل في بعض الليالي ولبس جبة صوف من جباب أهل البادية، واعتم بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجاً، وبالأخرى قفصاً فيه بيض، وتحين جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه، وقبل يديه وقال: يا مولا! تأمر من يقبض هذا؟ فقال له أسلم: ومن أمن؟ فقال: أجيرك في الضيعة الفلانية، وقد كان يعرف أسماء ضياعه والعاملين فيها، فأمر أسلك غلمانه ذلك منه على عادتهم في قبول هدايا العاملين في الضياع عند ورودهم ثم جعل يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام، فتأمله فعرفه، فقال له: يا أخي! وإلى هنا بلغت بنفسك، وإلى ها هنا تتبعني؟ أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملةً وعن القعود على بابي نهاراً، حتى قطعت عني جميع ما لي فيه راحة، فقد صرت من سجنك في حيرة، والله، لا فارقت هذه الليلة قعر منزلي، ولا جلست بعدها على بابي لا ليلاً ولا نهاراً. ثم قال، فانصرف أحمد بن كليب حزيناً كئيباً.
قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنان فقلنا لأحمد بن كليب: قد خسرت دجاجك وبيضك، فقال: هات كل ليلة قبلة يده، وأخسر أضعاف ذلك.
قال: فلما يئس من رؤيته البتة نهكته العلة، وأضجعه المرض.
قال محمد بن الحسن: فأخبرني شيخنا أبو عبد الله محمد بن خطاب قال: فعدته فوجدته بأسوأ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى؟ فقال: دوائي معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم في البتة. فقلت له: وما دواؤك؟ قال نظرة من أسلم، ولو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك بذلك، وكان هو والله أيضاً يؤجر.
قال: فرحمته وتقطعت نفسي له، فنهضت إلى أسلم، فاستأذنت عليه، فأذن لي وتلقاني بما أحب، فقلت له: لي حاجة. قال: وما هلي؟ قلت: قد علمت ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم! ولكن تعلم أنه برح بي وشهر اسمي وآذاني. فقلت: كل ذلك يغتفر في مثل الحال التي هو فيها، فتفضل بعيادته. فقال لي: والله ما أقدر على ذلك فلا تكلفني هذا. فقلت له: لا بد، فليس عليك في ذلك شيء، وإنما هي عيادة مريض.
قال: ولم أزل به حتى أجاب، فقلت: فقم الآن! فقال لي: لست والله أفعل، ولكن غداً، فقلت له: ولا خلف؟ قال: نعم.
قال: فانصرف إلى أحمد بن كليب وأخبرته بوعده بعد تأبيه، بذلك وارتاحت نفسه.
قال: فلما كان من الغد بكرت إلى أسلم وقلت له: الوعد. فوجم، وقال: والله لقد تحملني على خطةٍ صعبةٍ علي، وما أدري كيف أطيق ذلك. قال: فقلت له: لا بد أن تفي بوعدك لي.
قال: فأخذ رداءه ونهض معي راجلاً، فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، وتوسط الزقاق وقف واحمر وخجل، وقال لي: يا سيدي، الساعة والله أموت وما أقدر أن أنقل قدمي، ولا أستطيع أن أعرض هذا على نفسي. فقلت له: لا تفعل بعد أن بلغت المنزل وتنصرف؟ فقال: لا سبيل، والله، إلى ذلك البتة.
ورجع هارباً، فاتبعه فأخذت بردائه، فتمادى وخرق الرداء، وبقيت قطعة منه في يدي لشدة إمساكي له، ومضى ولم أدركه، فرجعت ودخلت على أحمد بن كليب.
وقد كان غلامه دخل عليه، إذ رآنا من أول الزقاق، مبشراً، فلما رآني دونه تغير وجهه وقال: وأين أبو الحسن؟ فأخبرته بالقصة، فاستحال من وقته، واختلط، وجعل يقول ويتكلم بكلامٍ لا يعقل منه أكثر من الترجع، فاستبشعت الحال، وجعلت أترجع وقمت، فثاب إليه وجهه، وقال: أبا عبد الله! قلت: نعم! قال: اسمع مني، واحفظ عني. ثم أنشأ يقول:
أسْلمُ يَا رَاحَةَ العَلِيلِ، ... رِفقاً على الهَائمِ النّحِيلِ.
قال: فقلت: اتق الله، ما هذه الكبيرة؟ فقال لي: قد كان. فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الزقاق حتى سمعت الصراخ عليه وقد فارق الدنيا.
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وهذه قصة مشهورة عندنا. ومحمد بن الحسن ثقة، ومحمد بن خطاب ثقة، وأسلم هذا من بني خلف وكانت فيهم وزارة وحجابة، وهو حاجب الديوان المشهور في غناء زرياب، وكان شاعراً، وابنه الآن في الحياة يكنى أبا الجعد.
قال أبو محمد: ولقد ذكرت هذه الحكاية لأبي عبد الله محمد بن سعيد الخولاني الكاتب، فعرفها، وقال: لقد أخبرني الثقة أنه رأى أسلم هذا في يوم شديد الكطر لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب المذكرو زائراً له قد تحين غفلة الناس في مثل ذلك النهار.
مصادر و المراجع :
١- مصارع العشاق
المؤلف: جعفر بن
أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)
الناشر: دار
صادر، بيروت
25 مايو 2024
تعليقات (0)