المنشورات
حكاية سلم حبيش على بعد العيش
ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد خلف بن المرزبان حدثهم قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الكوفي، حدثنا الهيثم بن عدي، حدثني سعيد بن شيبان عن أبي مسعود الأسلمي عن أبيه قال: نشأ فينا غلام يقال له عبد الله بن علقمة، وكان جميلاً، فهوي جاريةً من غير فخذه، يقال لها حبيشة، فكان يأتيها، ويتحدث إليها. قال: فخرج ذات يوم من عندها، ومعه أمه، فراى في طريقه ظبيةً على رابية، فأنشأ يقول:
يا أُمَّنا خَبّرِينا، غَيرَ كاذِبَةٍ، ... وَلا تَشوبي سؤولَ الخيرِ بالكذِبِ.
حُبَيشُ أحسَنُ أمْ ظَبيٌ بَرابيَةٍ، ... لا بل حُبيشةُ من دُرٍّ وَمن ذهَبِ.
انصرف من عندها مرةً أخرى، فأصابته السماء، فأنشأ يقول:
وَما أدْرِي، إذا أبْصَرْتُ يَوْماً، ... أصَوْبُ القَطْرِ أحْسَنُ أمْ حُبَيشُ.
حُبَيشٌ، وَالّذِي خَلَقَ البَرَايَا ... عَلى أنْ لَيسَ عِندَ حُبَيشَ عَيشُ.
فلما كثر ذلك منه وشهر بها، قال قومه لأمه: إن هذا الغلام يتيم، وإن أهل هذه المرأة يرغبون بأنفسهم عنكم، فانظري جاريةً ن قومك ممن لا تمتنع عليك، فزيّنيها واعرضيها عليه لعله يتعلقها ويسلى، ففعلت، وحضرها نساؤها، فجعلوا يعرون عليه نساء الحي، ثم يقولون له: يا عبد الله! كيف ترى؟ فيقول: إيهاً، والله حسناء، إلى ان قال قائل: أهي أحسن أم حبيشة؟ فقال: مرعى ولا كالسعدان.
فلما يئسوا من أن ينصرف عنها، قال بعضهم لبعض: عليكم بحبيشة، وطمعوا أن ياتوا الأمر من قبلها، فقالوا: والله لئن أتاك، لا تزرين به، وتتجهمينه، وتقولين له: أنت أبغض الناس إلي، فلا تقربني، ونحن بمرأى منك ومسمع، ليفعلن بك ما يسوءك، فأتاها، فلم تكلمه بشيء مما قالوا، ولم تزد على أن نظرت إليه، ونظر إليها، ثم أرسلت عينيها بالبكى، فانصرف عنها، وهو يقول:
وَما كانَ حُبّي عن نَوَالٍ بَذَلْتِه ... وَلَيسَ بمُسْليَّ التّجَهّمُ وَالهَجْرُ.
سِوَى أنّ دائي مِنكِ داءُ مَودّةٍ، ... قَدِيماً، وَلمْ يُمزَجْ كما تُمزَجُ الخمرُ.
وَما أنسَ مِلْ أشياء لا أنسَ دمعَها ... وَنَظْرَتَها حَتّى يُغَيّبني القَبْرُ.
فبينما هما على أشد ما كانا عليه من الهوى والصبوة، إذ هجم عليهم جيش خالد بن الوليد يوم الغميصاء، فأخذ الغلام رجل من أصحاب خالد، فأراد قتله، فقال له: ألمم بي أهل تلك البيوت أقضي إليهن حاجةً، افعل ما بدا لك.
قال: فأقبلت به حتى انتهى إلى خيمة منها، فقال: إسلم حبيش بعد انقطاع العيش، فأجابته فقالت: سلمت وحياك الله عشراً، وتسعاً وتراً، وثلاثاً تترى، فلم أر مثلك يقتل صبراً. وخرجت تشتد، وعليها خمار أسود، وقد لاثته على رأسها، وكان وجهها مثل القمر ليلة البدر، فقال حين نظر إليها:
أرَيتُكِ إنْ طالَبتُكم فَوجَدتكمْ ... ببرْزَةَ، أوْ إنْ لم تَفُتْني الحَرَانقُ.
أمَا كانَ حَقّاً أن يُنَوَّلَ عاشِقٌ ... تكلّفَ إدلاجَ السُّرَى وَهوَ رَاهقُ.
فَإنيَ لا سِرّاً لَدَيّ أضَعْتُهُ، ... وَلا رَاقَ عَيني بعد وَجهكِ رَائقُ.
على أن ما بات العشية شاغل، ... فلا ذكر إلا أن تكون توامق.
فها أنا ماسور لديك مكبلن ... وما أنا بعد اليوم بالعتب ناطق.
فأجابته:
أرَى لكَ أسْبَاباً أظُنّكَ مُخْرِجاً ... بهَا النّفسَ من جَنبيّ والرّوحُ زَاهقُ.
فأجابها فقال:
فإنْ يَقتُلوني، يا حُبَيش، فلم يَدَعْ ... هَوَاكِ لهُمْ مِني سِوَى غُلّةِ الصّدرِ.
وَأنتِ التي قَفّلتِ جِلْدِي عَلى دَمي ... وَعَظمي وَأسبَلتِ الدموعَ على النّهرِ.
فأجابته فقالت:
وَنَحنُ بَكَينا من فِرَاقِكَ مَرّةً، ... وَأُخرَى، وَقايَسنا لكَ العُسرَ باليُسرِ.
فأنتَ فلا تَبْعَدْ، فَنِعمَ أخُو النَّدَى، ... جَميلُ المُحَيّا في المُرُوءةِ وَالبِشْرِ.
قال الذي أخبر به: فلم سمعت ذلك منهما أدركتني الغيرة، فضربته ضربةً، فقطعت منها يده وعنقه، فلما رأته قد سقط قالت لي: ائذن لي أن أجمع بعضه إلى بعض، فأذنت لها، فجمعته وجعلت تمسح التراب عن وجهه بخمارها وتبكي، ثم شهقت شهقةً خرجت منها نفسها.
مصادر و المراجع :
١- مصارع العشاق
المؤلف: جعفر بن
أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)
الناشر: دار
صادر، بيروت
25 مايو 2024
تعليقات (0)