المنشورات

قصة عروة وعفراء

نقلت من خط ابن حيويه: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، حدثني أبو العباس فضل بن محمد اليزيدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أخبرني لقيط بن بكر المحاربي.
أن عروة بن حزام وعفراء ابنة مالك العذريين، وهما بطن من عذرة، يقال لهم بنو هند بن حزام بن ضبة بن عبد بكير بن عذرة، نشأا جميعاً فعلقها علاقة الصبي، وكان عروة يتيماً في حجر عمه، حتى بلغ، فكان يسأل عمه أن يزوجه عفراء فيسوفه، إلى أن خرجت عير لأهله إلى الشام وخرج عروة إليها، ووفد على عمه ابن عم له من البلقاء يريد الحج، فخطبها، فزوجها إياه.
وأقبل عروة في عيره حتى إذا كان بتبوك نظر إلى رفقة مقبلةٍ من نحو المدينة فيها امرأة على جمل أحمر، فقال لأصحابه: والله، إنها شمائل عفراء، فقالوا: ويحك! ما تترك ذكر عفراء لشيء؟ قال: وجاء القوم، فلما دنوا منه وتبين الأمر يبس وبقي قائماً لا يتحرك، ولا يحير كلاماً، ولا يرجع جواباً، حتى بعد القوم، فذلك حيث يقول:
وَإني لَتَعرُوني لِذِكرَاكِ رِعْدَةٌ، ... لها بَينَ جِلْدِي وَالعِظامِ دَبِيبُ.
فَما هُوَ إلاّ أنْ أرَاهَا فُجاءةً ... فَأُبْهَتَ حَتى مَا أكَادُ أُجِيبُ.
فَقُلْتُ لعَرّافِ اليَمَامَةِ: داوِني، ... فَإنّكَ إنْ أبْرَأتَني لَطَبِيبُ.
فَما بيَ من حمّى وَلا مسّ جِنةٍ، ... وَلكنّ عَمي الحِميرِيَّ كَذُوبُ.
قال أبو بكر: وعراف اليمامة هذا الذي ذكره عروة وغيره من الشعراء، هو رياح بن راشد ويكنى أبا كحيلة، وهو عبد لبني يشكر، تزوج مولاه امرأةً من بني الأعرج، فساقه في مهرها ثم ادعى بعد نسباً في بني الأعرج.
ثم إن عروة انصرف إلى أهله واخذه البكاء والهلاس حتى نحل، فلم يبق منه شيء، فقال بعض الناس: هو مسحور، وقال قوم: بل به جنةٌ! وقال آخرون: بل هو موسوس، وإن بالحاضر من اليمامة لطبيبا يداوي من الجن، وهو أطب الناس، فلو أتيتموه، فلعل الله يشفيه، فساروا إليه من أرض بني عذرة حتى داواه، فجعل يسقيه السلوان، وهو يزداد سقماً، فقال له عروة: يا هناه! هل عندك للحب دواء أو رقية؟ فقال: لا والله. فانصرفوا حتى مروا بطبيب بحجر، فعالجه وصنع به مثل ذلك، فقال له عروة: والله ما دائي ودوائي إلا شخص بالبلقاء مقيم، فهو دائي، وعنده دوائي.
وفي غير هذه الرواية: شخص بالبلقاء مقيم هو وراني، أي أمرضني وهزلني، والورى داء يكون في الجوف مثل القرحة والسل.
قال سحيم عبد بني الحسحاس:
وَرَاهُنَّ رَبي مثلَ ما قَد وَرَينَني، ... وَأحمَى على أكبادِهنّ المَكاوِيَا.
رجع الحديث قال: فانصرفوا به، فأنشأ يقول عند انصرافهم به:
جَعلتُ لعَرّافِ اليَمَامَةِ حُكمَهُ ... وَعَرّافِ حِجرٍ إن هُما شَفَياني.
فقالا: نعم! نَشفي من الداء كلّه، ... وَقَامَا مَعَ العُوّادِ يَبْتَدِرَانِ.
فَمَا تَرَكَا مِنْ رُقيَةٍ يعلمانِها، ... وَلا سَلَوةٍ إلاّ وقَدْ سَقَيَاني.
فَقالا: شَفاكَ الله، وَاللهِ مَا لَنَا ... بما ضَمِنَتْ مِنكَ الضّلُوعُ يَدانِ.
قال: فلما قدم على أهله، وكان له أخوات أربع ووالدة وخالة، فمرض دهراً، فقال لهن يوماً، اعلمن أني لو نظرت إلى عفراء نظرة ذهب وجعي، فذهبن به حتى نزلوا البلقاء مستخفين، فكان لا يزال يلم بعفراء، وينظر إليها، وكانت عند رجل كريم سيد كثير المال والغاشية.
فبينا عروة يوماً بسوق البلقاء، إذ لقيه رجل من بني عذرة فسأله عن حاله ومقدمه، فأخبره. قال: والله لقد سمعت انك مريض، وأراك قد صححت. فلما أمسى الرجل دخل على زوج عفراء فقال: متى قدم عليكم هذا الكلب الذي قد فضحكم؟ فقال زوج عفراء: أي كلب هو؟ قال: عروة! قال: أوقد قدم؟ قال: نعم! قال: أنت والله أولى بها منه أن تكون كلباً، ما علمت بقدومه، ولو علمت لضممته إلي.
فلما أصبح غدا يستدل عليه حتى جاءه، فقال: قدمت هذا البلد، ولم تنزل بنا، ولم تر أن تعلمنا بمكانك فيكون منزلكم عندنا وعلي، إن كان لكم منزل إلا عندي. قال: نعم! نتحول إليك الليلة، أو في غد. فلما ولى قال عروة لأهله: قد كان ما ترون، وإن أنتم لم تخرجوا معي لأركبن رأسي ولألحقن بقومكم، فليس علي بأس. فارتحلوا وركبوا طريقهم، ونكس عروة ولم يزل مدنفاً، حتى نزل وادي القرى.
وروى العمري عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين أن عفراء لما بلغها وفاة عروة قالت لزوجها: يا هناه! قد كان من أمر هذا الرجل ما بلغك، والله ما كان ذلك إلا على الحسن الجميل، وإنه قد بلغني أنه مات في أرض غربةٍ، فغن رأيت أن تأذن لي فأخرج في نسوة من قومي فيندبه ويبكين عليه. فقال: إذا شئت، فأذن لها، فخرجت، وقالت ترثيه:
ألا أيّها الركبُ المُخِبّونَ وَيحَكُم! ... بحَقٍّ نَعَيتُم عُرْوَةَ بنَ حِزَامِ.
فَلا هَنئ الفِتيَانَ بَعدَكَ غَارَةٌ، ... وَلا رَجَعُوا مِنْ غَيبَةٍ بِسَلامِ.
فَقُلْ للحبَالى لا تُرَجّينَ غَائِباً، ... وَلا فَرَحَاتٍ بَعْدَهُ بِغُلامِ.
قال: ولم تزل تردد هذه الأبيات وتبكي حتى ماتت، فدفنت إلى جابنه، فبلغ الخبر معاوية، فقال: لو علمت بهذين الشريفين لجمعت بينهما.
وقد روي مثل هذا الكلام عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا، حدثنا العيشي عن أبيه قال: لما زُوجت عفراء جعل عروة يضع صدره في أعطان إبلها، وحيث كانت تجلس، فقيل له: اتق الله، فإن هذا غير نافعك، فأنشأ يقول:
بيَ اليأسُ، أوْ داءُ الهُيَامِ سُقِيتُه، ... فإيّاكَ عَني لا يَكُنْ بكَ مَا بيَا.











مصادر و المراجع :

١- مصارع العشاق

المؤلف: جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)

الناشر: دار صادر، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید